اسمحوا لنا أن نبحث عن شيء من الجمال في ربى السودان ووهاده.. فقد طالت علينا الليالي السود: من أزمات سياسية إلى أزمات اقتصادية إلى أزمات فساد في المجتمع والفرد..الخراب يعشعش في كل ركن !! لم يبق لنا شطر جميل من الوطن إلا في حنجرة الفنانين الرواد وبعض المتأخرين من الخليل إلى مجذوب أونسه! هذا الجيل الذي كان من حظه أن يستمتع بنوع من التفاؤل بمستقبل الوطن، هو الذي رسم الهوية السودانية التي لم تنزل بعد إلى حدود سياسية و اجتماعية واضحة التكوين. كلهم تغنوا بالسودان وللسودان، حتى في أغنياتهم العاطفية تجد الأنثى عندما ينضج عشقها يتغنى بها الشاعر وقد أصبحت وطناً. لهذا أتعب الخليل نقاد الأغنية وهم يبحثون في معاني «عازة» هل هي أنثى أم وطن وهل أغنية(الطيرالمهاجر) أغنية سياسية أم عاطفية؟؟ وها هو الشاعر الفيلسوف التيجاني يوسف بشير يحلم في الخمسينيات والستينيات بحنجرة فائقة لتنشر الموسيقى فوق القرى السودانية والوديان والبوادي. كأنما كان (السودان) في حاجة ماسة إلى موسيقى ليعيد تشكيل مستقبل الأجيال بعد الاستقلال. هذا الشاعر ينادي بمعالجة قضايا السودان بالموسيقى! يبدو في هذه الخطة أن المعالجة تبدأ أولاً بإزالة الأمية من خلال اللحن. أي أن هذا الايقاع الفائق النفاذ يوقظ في الأميين الذين سماهم بالأعراب مشاهد رائعة، ترتسم على حواسهم لتنتقل صورها لتحرك الأعصاب. كل هذه القصة حكاها في رسالة على شكل قصيدة غناها الاستاذ الكبير سيد خليفة تحت عنوان(قم يا طرير الشباب). قم يا طرير الشباب غن لنا غني يا حلو يا مستطاب أنشودة الجن وأقطف ليَّ الأعناب واملأ بها دني من عبقري الرباب أو حرمي الفني كأنما بهذه الأوصاف كان يحلم بفنان على صورة تجربة محمد عثمان وردي! هذا هو الفنان الذي رسم صورته في وعي الناس، ولا نستطيع أن نفهم كيف يرسم الفنان جمالاً هياباً على حس الناس وأعصابهم، إلا عندما نتذكر كيف كان الشعب السوداني يحتفي بوردي، فقد ملأ كؤوسهم من (عبقري الرباب) كما يقول التيجاني (شاعر الروح والوجدان والخلود). ومن غير وردي غنى في القرى السودانية والمدن وسكب من سحره (على كل نادٍ)؟.. وفي النهاية استطاع أن يطرق أبوابهم «باباً بابا».هكذا صوّر التيجاني يوسف بشير(لحظة) وردي التاريخية في السودان منذ عشرات السنين، ووردي لم يظهر بعد في الساحة بحجمه الذي رأيناه به بعد منتصف السبعينيات. أنظر كيف يطالب هذه الحنجرة (الحلم) لتسكب ألحاناً في وعي الشعب!!! ولا يجد لها مفردة واضحة تحمل معانيها سوى (أنشودة الجن). وفي موقع آخر يصفها ب «عبقري الرباب». لا يطالبه فقط أن يغذي له وجدانه بالقول(واملأ بها دنْي) بل يريد منه أن ينشر الألحان في ربوع الوطن، كأنما بهذا يريد أن يعالج أزمات الوطن: صح في الرُّبى والوِّهاد واسترقص البيداء واسكبْ على كل ناد ما يسحر الغيداء يطالب هذه الحنجرة الفائقة التي يحلم بها أن تطهر الأرواح ويطير في «الأزمان» ويتفوق على مبدعي تاريخه العربي: أمسح على زرياب واطمس على معبد وأمشي على الأحقاب وطفْ على المرَّبد زرياب ومعبد من رموز الفن والغناء في قصور ملوك بني العباس في بغداد. ارتبط تاريخهم برفاهية البلاد الإسلامية.. يخاطب هذا المغني الذي يحلم به ويقول له أن يُحي ذكرى هؤلاء المبدعين التاريخيين (أمشْ على الأحقاب). ولا يكتفي بذلك فحسب بل يطالبه أن يتفوق عليهم، ليبقى رمزًا يستمد منه الخيال والجمال، كما يستمد منه المتعة، وهو يرتشف الخمر من قاع الكأس!! يحلم بهذا الفنان الخلاق الذي سيطهر الروح السودانية!! ثم يشرح كيف تغوص هذه الحنجرة الفائقة إلى قاع وجدان الناس: صوِّر على الأعصاب وارسم على حِسي جمالك الهيَّاب من روعة الجرس واستدن باباً فباب واقعدْ على حِسي حتى يجف الشراب في حافة الكأس هذه الحنجرة الساحرة عندما تبث ألحانها من روعة جرسها يبقى أمامها المتذوق كتلة مشاعر ليس من السهل الفصل بين حواسه وأعصابه! ربما الرسم على الحس هنا يكون بالكلمة الملحنة التي تحمل صورة الذات بالنسبة للمستمع، أي أنه يرسم له ذاته أو أحلامه التي يريد تذكارها. أوبمعنى آخر يجد المستمع نفسه في معاني الكلمة والحانها. هذه الصورة التي تنقلها(الأعصاب) إلى أعماق النفس، وهي تتقلب في تلك الأجواء المتألقة تثير في المتذوق مزيدًا من متع لا تستطيع أن تصفها لغة. عملية الاستغراق في تلك السكرة الفنية لا يجد لها الشاعر سوى خمرة العنب. ويبدو أن الاستغراق هنا في سكرة صوفية بعيدة الغور!! لأن الحافة التي يريدها ب (حافة الكأس) هنا هي قاع النفس حيث الحقيقة في وجودها العذري.. ولا أحد يستطيع أن يبلغها ،والشراب في نهاية الأمر لن يجف! هذه الرحلة الصوفية هي نفسها رحلة الشاعر صلاح أحمد إبراهيم في أغنية «الطير المهاجر» في تلك الرحلة وجد ذاته على صورة بنت البلد (سنعود إليها في عنوان قادم). هكذا يمكن أن نقول أن نبوءة الشاعر الفيلسوف تتحقق بظهور تجربة وردي واضحة للعيان في منتصف الستينيات. وبعض من هذا الحلم تحقق وبعضه لم يتحقق. ها هو وردي صاحب الحنجرة الفائقة الحسن يجوب السودان شرقاً وغرباً يغني للمرأة ويستنهض الوطن والوطنية، وبالفعل كما تمنى الشاعر طرق «باباً باب» وقعد على نفوس الناس حتى شربوا من رحيق الكلمة والموسيقى. ولكن هل استطاع أن يجد تجاوباً من الشعب السوداني، وهو يستنهض هممهم في بناء وطن حر خال من الأزمات؟ وهذا السؤال بطريقة أخرى- هل كان في الامكان معالجة قضايا الوطن بالفن والموسيقى؟!! لا أعتقد أن وردي قد نجح رغم أن صوته بح في محاربة الاستبداد السياسي في السودان.ورغم أنه نفذ مطالب الشاعر بحذافيرها: وأغش كنار الغاب في هدأة المرقد وحدث الأعراب عن روعة المشهد ودليل فشله مع الشعب السوداني، أن الجنوبيين الذين وقف معهم خذلوه، وأنه رفض أن يغني أناشيده القديمة عندما طلب منه أن يؤديها في آخر مناسبة بعيد الاستقلال. فقد أعلن صراحة إنه «لم يحس بفرحة استقلال».. ولكن رغم كل ذلك سيكتب له أنه طهر النفوس المتطلعة للوطنية، بحنجرة فائقة الحس والابداع، وسجل مواقف في محاربة الاستبداد، وهو في آخر المطاف زرع هوية سودانية نقية في وعي الأجيال، وأخذ حقه من الحياة بالكامل ورحل..!إذن أصبح وردي (لحظة) فارقه في تاريخ السودان الحديث لأنه استطاع أن يصور جمالاً هياباً على أعصاب الشعب السوداني، ورسم الكثير فوق حواس الناس. كانت موسيقاه من (عبقري الرباب) وأغنية من «أنشودة الجن».. لهذا ظل كبصمة من بصمات الزمن الجميل، ورحم الله وردي والتيجاني يوسف بشير وسيد خليفة ..