بروفيسور/ عبد الرحيم محمد خبير يقول أهل العلم إن الفن هو تجلٍ للعبقرية وللقِوى الخلاقة التي تقع وراء نطاق مجرد الحرفة أو التعلم أو التقنية التطبيقية. ومبدعنا الراحل المقيم/ محمد عثمان وردي أحد رموز الفن الأصيل على مر الأجيال والعصور. فقد حلّقَ بالإبداع السوداني وسما به إلى مرتبة العبقرية، مما جعلني أتحرج في أن أسِمْ هذه الزفرات ب "وردي: عبقرية الغناء والموسيقى السودانية" فحسب، سيما وأن ما رفدنا به من أغاني وموسيقى بعربية قشيبة ونوبية سلسة، بسلم خماسي أفريقي التقاسيم تجاوز الحدود القطرية ليشمل الاحتفاء بها الملايين من شعوب القارة السمراء وليصبح "فنان أفريقيا الأول" دون منازع. لا مشاحة، أن الموسيقى تمنحنا مشاعر الأمل والتوقع والسعادة، وتوحي إلينا بمعارف سماوية، والجزء الذي يدركه العقل منها عن طريق الحواس، هو تجسيد للمعرفة العقلية. ولعل من نافل القول، أن العقل يحيا بالموسيقى كما نحيا على الهواء، فهي أوكسجين الأعصاب. وهي - أي الموسيقى – شيء مختلف نعجز عن إدراك كنهه عقلياً، وكلما تزودت النفس بغذاء الموسيقى والغناء، ازداد استعداد العقل للتعاطف السعيد معها. بيد أن القلة – كما يستبان للعارفين بأسرار الموسيقى- هم الذين يتمكنون من بلوغ هذه المنزلة. ومبدعنا محمد وردي أحد هؤلاء العباقرة الذين سبروا أغوار فن الموسيقى وارتقوا به إلى هذه الدرجة العلية. فلم يكن مطرباً مؤدياً فقط بل في ذات الوقت شاعراً وموسيقياً فذاً قل أن يجود الزمان بمثله. وتميزت أعماله الفنية بالتفرد والإضافة الملهمة والتجاوز الاستثنائي. ولا ريب أن تلكم الخصائص لهي أبرز علامات العبقرية الحقة. واستطاع مبدعنا الكبير من خلال مسيرته الفنية التي تجاوزت نصف القرن من الزمان أن يتفرد بمقطوعات عزفية ومقدمات ومؤلفات موسيقية وألحان ساحرة، فضلاً عن كلمات منتقاه بعناية فائقة لتلائم الذوق السليم. فمن منا لا يطرب ل "نور العين"، و "القمر بوبا" و "الطير المهاجر" و "صدفة" و "ذات الشامة" و "وأسفاي"، "وقلت أرحل"، و "الود" و "الحزن القديم"، و " المرسال" و "جميلة ومستحيلة" و "بلدي يا حبوب" ......... إلخ هذه الخرائد، فضلاً عن المواويل النوبية الشجية والأناشيد الوطنية الآسرة بدءاً من "الأكتوبريات" "وانتهاءً ب "وطنا... البا اسمك كتبنا ورطنا..." والتي سار بذكرها الركبان. ولعل القول المأثور بأن عشرة في المائة من العبقرية إلهام، وتسعين في المائة منها جهد – يتضمن قدراً من الحقيقة. فلم يكتف محمد وردي باختيار مفرداته الغنائية وجمله الموسيقية بعناية فحسب، بل كان كما يذكر العديدون – شديد الحرص على أدق التفاصيل. ويبذل جهداً لا تخطئه العين لتجويد عمله الغنائي والموسيقي بحماس دافق وروح متألقة وابتكار يثير الدهشة ويصنع السعادة للمتلقي؛ والاندهاش والسعادة – على حد تعبير شاعر ألمانيا الأشهر جوته – هما العنصران اللذان يُربطان دوماً بالعبقرية. ولعل من أهم مميزات شخصية هذا الهرم الفني الفخيم أنه كان مثقفاً عضوياً ، منحازاً لعموم أهل السودان بمختلف أطيافهم وتنوعاتهم الإثنية والثقافية. فيشهد له التاريخ التزامه بقضايا شعبه ووطنه وكان سنداً لأمته في خطوبها وهَزَارها الغَِردْ في انتصاراتها مع اعتداد بالنفس دونما غرور وإرادة صلبة لا تعرف المهادنة والانكسار. وعاش بيننا عزيزاً، أبياً، مرفوع الرأس، مجسداً أروع الأمثلة للإيثار النادر والوطنية الصادقة التي يتسم بها دون شك أهل المبادئ والقيم النبيلة. ألا رحم الله تعالى محمد وردي وأنزل عليه شابيب رحمته الواسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنان، إنه سميع مجيب الدعاء.