ü عاد موضوع «الهوية»، الذي هو ليس ذا موضوع، إلى السطح مجدداً، واحتل موقعاً متقدماً في الجدل الدائر ومقالات الصحف وتقاريرها التي تتناول خطاب الرئيس البشير الأخير الذي أصبح يعرف اعلامياً ب«خطاب الوثبة». ü أمس الأول (الأحد) طالعت مقالاً للاستاذة أميرة السقا يحمل عنوان «الهوية.. بين الدغمسة والوضوح» وعنواناً رديفاً: «قراءة في التاريخ الخطابي المعاصر للرئاسة»، بذلت فيه الأستاذة أميرة جهداً أكاديمياً مشكوراً في محاولة للتعريف «لغوياً وتاريخياً» بمسألة الهوية كمستودع «للوعي بالذات الثقافية والاجتماعية» وكمقدمة لبناء دولة المواطنة والاستفادة من الكم الهائل من التنوع الذي يزخر به السودان وتجاوز محطة «أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العريق». ü موضوع الهوية، أو «قضيتها» هي عندي «مسألة مفتعلة»، هي موضوع «للصراع السياسي والآيديولوجي» أكثر من كونها مشكلة حقيقية تواجه إنسان السودان من أي من جهاته الأربع أتى.. نعم هي كانت مشكلة في أوقات سابقة من التاريخ عندما كان الناس يصنفون إلى «أحرار وعبيد»، وتلك مرحلة تجاوزها السودان، بل تجاوزتها البشرية جمعاء منذ أن أُلغيت تجارة الرقيق وجُرِّم استغلال واستعباد الانسان لأخيه الانسان، وقد كان لغردون باشا، المقتول على عتبات القصر الجمهوري لحظة فتح الخرطوم، دوراً مرموقاً في الحرب على تجارة الرقيق في فترة انتدابه الأولى للعمل في المديريات الجنوبية. ü المهم، منذ انتصار الثورة المهدية وحتى بعد سقوط دولتها وقيام الحكم الثنائي انتهت تجارة الرقيق وتصنيف السودانيين إلى أحرار أسياد وعبيد مأمورين، وأخذت دولة المواطنة المتساوية تتبلور وأصبحت معادلة الحقوق والواجبات هي التي تحكم علاقة المواطن بالدولة وبأجهزة الحكم، وتكرست هذه المعادلة وتلك القيم خلال الحكم الثنائي- برغم طابعه الاستعماري- عبر إجراءات التحديث والتنمية والتعليم التي رافقت ذلك العهد حتى استقل «السودان» وأصبح كل أهل السودان مواطنين كاملي الأهلية بغض النظر عن درجة تعليمهم أو انتمائهم الأولي «القبلي» أو لونهم أو لغتهم المحلية. ü وفي إطار هذه «الحقيقة الصلبة»، قد تكون هناك بعض مخلفات الماضي وذكرياته المريرة التي تنتج حالات تشويه وتشويش على هذه الحقيقة التي تساوي «رسمياً» بين المواطنين وفق الحقوق الدستورية والقانونية، لكن لسوء الحظ فإن هذه «المساواة الرسمية» لم تجد لها ترجمة من حيث اجراءات التنمية والتحديث، فخلف ذلك إنطباعاً بأن المناطق النائية والطرفية- التي كانت في ما مضى مصادر لجلب الأرقاء المستعبدين- لا يزال المركز ومناطق الوسط النيلي يتعامل معها على أساس «النظرة الدونية» التاريخية لسكان تلك المناطق، وقد تُغذِي الثقافة الشفاهية والممارسات الاجتماعية وتُعزز مثل هذا الانطباع «بهويات» مختلفة ومتباينة. وهو انطباع متوهم ومتخيل نكتشفه فور وقوع نزاع بين اثنين من السودانين واللجوء إلى عتبات الحكم وأجهزة تنفيذ القانون أو عندما يصطف الناس في طوابير الاقتراع لدى كل استحقاق انتخابي. ü الحرب الأهلية في الجنوب ومن بعد في دارفور ساهمت بدورها في رفع درجة الإحساس بتباين الهوية وكرست هذا «الانطباع المتخيل» فصار موضوعاً للجدل السياسي، خصوصاً بعد انقلاب الانقاذ في أواخر ثمانينات القرن الماضي، إذ جاءت «الانقاذ» بآيديولوجية ومشروع سياسي يقوم على تأسيس دولة اسلامية- عربية، وخاضت حرباً جهادية تحت رايات وأناشيد «عربواسلامية»، كما كنا نشاهد في برامج ك«ساحات الفداء»، ونشأ في موازاة هذا تبشير مضاد رفع من درجة الإحساس بالهوية «السودانية» المغايرة- المتوهمة والمتخندقة في ذكريات الماضي البغيض. والتي لعب فيها الصراع الآيديولوجي بين ناشطي الاسلامي السياسي والحركة الشعبية دور المهيج و«المولع للنيران». ü الذين صاغوا «خطاب الوثبة» للرئيس حددوا أربع قضايا للحوار الوطني هي السلام والحريات والاقتصاد، وزجوا ب«الهوية» كواحدة من تلك «القضايا»، بينما كان الأجدر بهم استبعادها «كمحور للنقاش». ذلك للأسباب التالية: ü كان يكفينا في هذا المقام الإشارة إلى السودان «كوطن» وإلى السودانيين جميعهم «كمواطنين» لهم حقوق وعليهم واجبات متساوية بغض النظر عن دينهم أو ثقافتهم أو منطقتهم الجغرافية، وهذا هو مناط المساواة الدستورية. ü تفجير الجدل حول الهوية يعيد الجميع إلى ذكريات الماضي ويكرس «الانطباعات المتخيلة» ويعقد الحوار حول القضايا الجوهرية، كقضايا السلام والحريات والتنمية الاقتصادية والبشرية المتوازنة، وهي القضايا التي إذا ما تمت معالجتها بالجدية والمنهجية الموضوعية اللازمة تجُبّ «مسألة الهوية» التي أقحمها مُعدو خطاب الرئيس بين القضايا الأربع للحوار، بحيث تصبح تحصيل حاصل. وإلا فما الذي يمكن أن يقوله أطراف الحوار وشهوده سوى: كلنا «سودانيون» لنا ما لنا وعلينا ما علينا.. ونقطة أو «فلستوب». ü وللمرء أن يتساءل عن أهداف الذين اقحموا موضوع «الهوية» ضمن أجندة الحوار الوطني، هل يتوقعون اجابة أخرى حول هوية السودانيين الوطنية غير انتمائهم للسودان؟.. هل يريدون مثلاً اقحام «الدين» كأحد مكونات أواشتراطات التمتع بهذه «الهوية» دستوراً وقانوناً.. أم أنهم يريدون أن يُوحوا لاطراف الحوار بأنهم قدموا تنازلاً في «شروط الهوية» بأن يعترفوا مثلاً «بسودانية» الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والجهوية؟.. أم أنهم يريدون أن يطرحوا موضوع «الهوية» وهم يعلمون سلفاً حساسيته بحيث يصبح موضوعاً وجنداً متفجراً ينسف الحوار قبل بلوغ مراميه واستحقاقاته؟ ü كل تلك اسئلة مشروعة يجب توجيهها لمن صاغوا الخطاب من أهل الحكم.. ونقول لهم في الختام: إن هوية السودانيين ليست بحاجة لتعريف أو تصنيف «من أول جديد».. وكل المطلوب هو إنهاء الحرب وإفشاء السلام وإطلاق الحريات والتوافق على «دولة المواطنة» حيث يتساوى جميع أهل السودان في الحقوق والواجبات بنص الدستور والقانون. ويكفيكم مثالاً في هذا الصدد الولاياتالمتحدة حيث يخاطب زعماؤها وساستها «الأمة الأمريكية»- The Nation- التي تشكلت من الأعراق والسحن والألوان البشرية ولا يزال الناس يهاجرون ويحصلون على جنسيتها وحقوقهم الكاملة كمواطنين خلال خمس سنوات فقط لا غير! ü نظل نحن السودانيين.. «نحنا يا نحنا.. لا بدلتنا الظروف.. ولا غيرتنا محنة».. فقوموا «لحواركم» يرحمكم الله!