من بين عشرات النصوص التي كتبها فولتير ونشرها في حياته، هناك نص صدر قبل أربع سنوات من رحيله في طبعة أولى، لكن الكاتب لم يذيّله بتوقيعه، بل انه حتى وفاته سيظل مصراً على أنه ليس مؤلفه بل ليس له به أية علاقة على الإطلاق، ناهيك بقوله لبعض خلصائه انه، أصلاً، لم يقرأ هذا النص أبداً. »فأنا، قال، صرت من المتقدم في السن بحيث لا أجد وقتاً كافياً حتى لمراجعة ما كتبته طوال حياتي. فكيف بهذا النصّ الذي لا أعرف عنه شيئاً؟«. غير أن إنكار فولتير لهذا النص لم يجدِه نفعاً، ذلك ان القراء، عامةً والمتخصصين، ما إن قرأوه منذ صدوره للمرة الأولى، حتى قرروا أنه لفولتير بما لا يدع لديهم ايّ شك. هذا النص هو »الثور الأبيض« الذي صدر للمرة الأولى في العام 1774، حاملاً العنوان والعنوان الفرعي التاليين: »الثور الأبيض، كما ترجمه دون كالميت عن اللغة السريانية«. ما يعني طبعاً أن ثمة زعماً أولياً بأن هذا النص سرياني الأصل وليس من إبداع كاتب معاصر لذلك الزمن. بل ان غلاف الكتاب زعم أنه طبع في ممفيس، مع أنه في الحقيقة طبع في جنيف، مكان اقامة فولتير، على يد الناشر كرامر. والطريف أنه في العام نفسه صدرت طبعة جديدة من الكتاب حملت هذه المرة تعديلاً في عنوانه اذ صار: »الثور الأبيض كما ترجمها السيد ماماكي، مترجم ملك انكلترا للغات الشرقية«. وهذه المرة حملت الطبعة اسم مدينة لندن، مع ان الناس جميعاً أدركوا أنها صدرت، مثل الطبعة الأولى، في جنيف ولدى ناشر الطبعة الأولى نفسه. فما الذي دفع فولتير الى كل هذا الإنكار الذي أتى انكاراً لأمر بديهي؟ وما الذي دفعه الى أن يكتب رسالة الى صديقه دارجانتال يقول فيها، كذلك، في معرض نفيه مجدداً لكونه مؤلف »الثور الأبيض«: »هل تعتقدون انه يليق بي في هذه السن أن أصارع ضد الثيران مصارعة شخص اسباني لها؟«.يمكن الافتراض هنا، جواباً عن هذا سؤالنا، ان فولتير أراد ألا يظهر أبداً، وقد تصالح مع الكنيسة ظاهرياً على الأقل في السنوات الأخيرة من حياته، انه لا يزال مصراً على السخرية من الحكايات والأساطير القديمة. ذلك أن هذا النص، حتى وإن كان من المغالاة القول إنه يسخر من تلك الحكايات والأساطير، يحمل الكثير مما من شأنه أن يغيظ. فهو هنا، في حكاية ينسبها الى الأزمان القديمة، يوظف معرفته بتلك العصور من ناحية، وولعه بالأساطير الجديدة، ليقوم بعملية مزج أقل ما يقال فيها انها مسلية، من دون أن يتحمل الكثير من المعاني العميقة. غير أن المشكلة تبدأ مع استخدامه شخصيات قديمة مقدسة، في شكل يتنافى مع ما هو مذكور عنها في الحكايات ولا سيما في الكتاب المقدس. وكان هذا الأمر مرفوضاً حتى من دون أن تكون فيه اساءة أو خروج عن المنطق. وهنا قد يكون من المفيد أن نبحث عن سبب اضافي لرغبة فولتير في انكار نسبة »الثور الأبيض« اليه: فالحقيقة أن تضاؤل رغبات هذا الكاتب الفيلسوف في المشاكسة، وعدم نزوعه، من جديد وفي سنّه تلك، الى مقارعة الكنيسة أكثر وأكثر، جعلا حدة سخريته ضئيلة، ما حرم نص هذا العمل من تلك القدرة »التخريبية« التي كان فولتير اعتاد تحميل نصوصه بها. أتى النص من الاعتدال الى درجة وسمته في نهاية الأمر بسطحية جعلت منه - في الأحوال كافة - عملاً أدبياً فكرياً لا يليق بتاريخ فولتير. ومن هنا، يخيل الينا ان الكاتب بعدما أنجزه وكتبه، قرأه مراراً وتكراراً، وقرر نشره من دون الاعتراف به. فما هو »الثور الأبيض« بعد هذا كله؟ هو نص يروي لنا، بشكل فيه قدر كبير من التبسيط والافتعال، حكاية الأميرة امازيد، ابنة الملك امازيس، صاحب تاتيس في مصر الفرعونية. ولئن كانت أمازيد هي الشخصية المحورية هنا، فإن ثمة الى جانبها شخصيتين محوريتين أخريين هما الحكيم ممبريس، الساحر المجوسي القديم والذي صار الآن في خدمة فرعون مصر، و »الثور الأبيض« نفسه، الذي ليس في حقيقته سوى الملك نبوخذ نصر، وقد حوّله الساحر ثوراً بناء على رغبة الفرعون المصري. ويحدث ذات مرة أن تلتقي الأميرة أمازيد بالثور وقد عهد به الى امرأة عجوز، وفي صحبته عدد لا بأس به من الحيوانات... وتكتشف الأميرة ان كل هذا القوم العجيب يعيش على ضفاف النيل. أما اكتشافها الأهم فهو حين تتعرف في ذلك الثور إلى حبيبها الذي كان غاب عن عينيها منذ مُسخ حيواناً. أما الحكيم ممبريس، فإنه اذ التقى المجموعة بدوره، تعرف في العجوز الحارسة، إلى اندور الشهيرة، العرافة التي كانت اختفت ذات يوم. وأندور هذه ما إن يتم اللقاء حتى تكشف أن هذا الثور الأبيض ليس في حقيقته سوى نبوخذ نصر... أما البهائم التي ترافقه حارسة إياه، فإنها في الحقيقة جزء من التاريخ: فالأفعى هي نفسها التي نجدها في سفر التكوين، والحمارة حمارة بلعام، والسمكة ليست غير سمكة جوناس، والكلب هو كلب طوبياس، إضافة الى كبش المحرقة، واليمامة والغراب اللذين كانا من ضمن حيوانات سفينة نوح. أمام هذا الكشف، لا يعود أمام أمازيد إلا أن تستعيد حبها لحبيبها ولو انه يتخذ الآن سمات ثور أبيض، في انتظار عودته الى شكله الإنساني. ولكن لأن لا شيء يمكن اخفاؤه الى الأبد في بلاد فرعون، سرعان ما تنكشف العلاقة بين الأميرة والثور بحيث تصبح حديث المجالس والبلاط. فيغضب فرعون غضباً عظيماً ويقرر أن يتخلص من الثور. غير أن الحكيم ممبريس يكون هنا في المرصاد لمليكه. انه يقرر أن يعيد إلى الثور الأبيض اعتباره في شكل يمنع الفرعون من التخلص منه. وهو من أجل هذا يلجأ الى حيلة تساعده الظروف عليها. ففي ذلك الحين كان الثور المقدس ابيس قد مات. واذ بات من الضروري تعيين خلف له، يعلن ممبريس - لأن هذا يدخل في صلاحياته الخاصة - ان الثور الأبيض هو الآن خليفته. لذا اذا كان في وسع فرعون أن يدنو منه، فإنه ملزم بأن يدنو كعابد له، وليس كحاكم عليه... وهكذا بفضل هذا التدخل الحكيم تسوّى الأمور ويصبح في وسع الأميرة أمازيد أن تتزوج من حبيبها نبوخذ نصر، حيث ان قداسته الجديدة مكنته على الفور من أن يستعيد سماته البشرية... وهكذا تنتهي هذه الحكاية التي، حتى وإن كانت لا تخلو من طرافة، فإنها في الوقت نفسه لا تخلو من سذاجة. ومن الواضح هنا أن فولتير، صاحب »كانديد« و »رسائل فلسفية« والعشرات غيرهما من الأعمال الفلسفية والفكرية، والمسرحية الروائية، انما كان يلهو عبر كتابته هذه الحكاية، في الوقت نفسه الذي أتاحت له هذه الأخيرة فرصة طيبة ليسخر من شخصيات وأحداث على سجيته. ويتجلى هذا، ليس في تحديد مواقع الشخصيات في النص، حتى وإن كانت ذات سمات حيوانية، بل في وصفه الطريف لتصرف هذه الشخصيات والخرَق الذي يبدو في تصرفاتها بدءاً من فرعون نفسه وصولاً الى الحية واليمامة والأميرة وما الى ذلك... الى درجة ان الحكيم ممبريس، يكاد يكون الشخص الوحيد العاقل والحسن التصرف في هذا العمل، مع العلم ان مواصفاته في النص، تكاد تنطبق على مواصفات فولتير نفسه في الحياة العامة، ما يضفي على النص تفسيرات وأبعاداً إضافية. حين كتب فرانسوا ماري آرويه (الذي عرف دائماً باسمه المستعار فولتير) هذا النص، الذي كان من بين آخر ما كتب، كان في الثمانين من عمره. وكان مجده ومعاركه ودوره في النهضة الفكرية التي مهدت لقيام الثورة الفرنسية أموراً صارت وراءه كلياً. وكان قد وجد شيئاً من المصالحة مع نفسه ولم يعد راغباً في استثارة الكنيسة الرسمية التي كانت دائماً له في المرصاد معلنة حرمانه وعداءها له، مع كل كتاب يصدره وكل نص يكتبه، معتبرة اياه عدوها العام الرقم واحد.