في غمرة انشغالنا والعالم بأحداث شبة جزيرة القرم تذكرت قبل ايام الكاتب والروائي الروسي «انطون بافلوفتش تشيكوف» (1860 1904) الذي عاش جزءاً من حياته في مدينة يالطا بشبه جزيرة القرم حيث اشترى بيتاً هناك، واستقر مع امه واخته بعد اشتداد مرض السل عليه ووفاة الده، فقرر الانتقال إلى شبه جزيرة القرم و باع مزرعته، وانتقل إلى يالطا في عام 1899 وقد اصبح داره في يالطا- فيما بعد- مزارًا للسياح، وقد قضينا وقتاً جميلاً في الدار بصحبة عدد من السياح الامريكان، وكنت قبل زيارة الدار وما زلت معجباً بقصص «تشيخوف» القصيرة الممتعة والساخرة.. واللطيف إن «تشيخوف» تتلمذ على يد عدد من الكتاب الروس من بينهم الشاعر «بوشكين» وهو من أصل حبشي، ويعتقد الاريتريون إنه ارتيري وله تمثال في وسط العاصمة اسمرا.. وكنت مع بداية تناقص قوة الذاكرة قد ظننت أن (بوشكين) هو الذي عاش في القرم..! وماتزال الذكريات تتداعي وانا استعرض علاقاتي وارتباطي بشبه جزيرة القرم وخاصة يالطا وسمفروبل العاصمة والميناء سيفستبول.. واتذكر ما حفظته الذاكرة من تاريخ محزن ومبكي لهذه المنطقة االجميلة من العالم والتي تمتاز بموقع استراتيجي فريد!! جلب لها المذابح منذ عشرات القرون.. واعجب لما يحدث الآن على ارض القرم (القلعة أوالحصن) بلغة التتار .. وأتساءل: هل يعقل أن يعود المظلوم إلى ظالمه والمخنوق إلى خانقه طائعاً مختارًا..؟ ما يحدث الآن في شبه جزيرة القرم أمر يدعو للدهشة حقاً وقد تناسى اصحاب المصالح وقائع التاريخ.. هذه الجزيرة أو شبه الجزيرة الجميلة الأخاذة بمدنها وبحرها وجمال اهلها لا تستحق ما تتعرض له طوال قرون من مذابح وقتل و تصفية وسحل وتهجير قسري.. دماء غزيرة سفكت في شبه جزيرة القرم و ملايين المسلمين قتلوا وذبحوا طوال عهود القياصرة والشيوعيين، وتأريخ اسلامي مجيد يدفن قبل موعده ولا يذكر مطلقاً حتى عنده اهله التتار المسلمون.. انشغل العالم بشبه جزيرة القرم هل تعود إلى أحضان جلادها القديم أم تبقي تحت سيطرة اوكرانيا بثوبها الجديد..! ونسى الناس أو تناسوا تاريخ تلك الجزيرة المحزن والمثير.. لقد كتب لي الله سبحانه وتعالى زيارة تلك الجزيرة عدة مرات في الفترة ما بين 1997 و1998 وعشت فيها أياماً جميلة ما زلت اذكرها بكثير من الشوق والحنين إلى ربوعها.. واذكر زياراتنا لاحد ائمة المساجد في سمفروبول عاصمة شبه جزيرة القرم وكان الوقت قبيل صلاة المغرب والبرد شديد وقد اشتد بنا الجوع واستضافنا الامام وصاحبي (نيكولاي قويزل) الذي توفي قبل نحو شهر وحزنت عليه حزناً شديدًا.. لقد كان رجلاً شهماً مرحاً وقد كتبت عنه قبل سنوات مقالاً في هذه الصحيفة.. أكرمنا الإمام وقد أسعده كثيرًا أنني مسلم وصليت معه المغرب، ثم تناولنا شوربة ساخنة ولحماً شهياً وغادرناه وهو يواصل الدعاء لنا بالسلامة والعودة ثانية.. كانت امسية جميلة ماتزال عالقة في ذهني وقد ذكرتني بأولئك المسلمين المسنين الذين يعيشون في مسجد (الاقصى) في مدينة «عشق اباد» في تركمانستان.. وهم من الرجال الذين تمسكوا باسلامهم وظلوا عليه رغم ما تعرضوا له من فتن ومذابح وتصفيات..! وكنت قد جئت إلى سمفروبول مع صاحبي نيكولاي من اوديسا ميناء اوكرانيا الشهير ومعلوم أن اسم سمفروبل القديم هو «اق مسجد» أي «المسجد الأبيض» قبل أن يستولى عليها الروس ويطلقون عليها اسم سمفروبل وقد ركبنا حافلة سياحية (خاصة) لم يكن فيها احد غير نيكولاي وشخصي، وفي ميناء سيفستوبل انضممنا إلى مجموعة سياحية امريكية جاءت إلى الميناء على متن سفينة ضخمة، حيث طفنا معهم معظم أجزاء شبه جزيرة القرم، وقد قضينا ساعات ممتعة في يالطا تلك المدينة الجميلة التي كانت منتجعاً لرؤساء الاتحاد السوفيتي، و اشتهرت المدينة باحتضانها اجتماعا تاريخيًا لرئيس الولاياتالمتحدة «فرانكلين روزفلت» ورئيس الاتحاد السوفياتي الاتحاد السوفيتي «جوزيف ستالين» ورئيس وزراء بريطانيا آنذاك «ونستون تشرشل» لبحث تقاسم أوروبا بعد نهاية «الحرب العالمية الثانية» بعد هزيمة «المانيا النازية» عام 1945.... وتجولنا في المتحف الذي شهد تلك الاجتماعات وكنت اندهش ومن معي من السياح لجمال فتيات التتار و هن يستقبلن الضيوف، ويقمن بالشرح والتعليق في المتحف.. وتضمن البرنامح مشاهدة عرض بديع للبالية استمتعت به اكثر من العروض التي شاهدتها في اوديسا.. ثم زرنا ايضاً دار «انطون تشيخوف» الروائي الروسي الشهير.. وعدت ثانية وثالثة إلى سيفستبول مع الاخ العزيز الدكتور الوسيلة عبد المنعم المبارك الذي تخرج من احدي جامعات اوديسا ولكنه عاش سنوات في شبه جزيرة القرم،، وفي العودة |إلى اوديسا كانت رحلتنا بالقطارممتعة شبعنا فيها من (الكرز) الذي يباع الجردل منه ببعض قريفنات (قريفنا عملة اوكرانيا) وتذكرت وقتها اخي العزيز البروفيسور عوض إبراهيم عوض ونحن في بيته في كوالالمبور في نهاية التسعينيات وهو يتحدث عن كثرة الاناناس في مزرعة بيته، وعن توفره في ماليزيا بحيث لا يلتفت إليه أحد كما هو الحال مع البلس (التين الشوكي) في اسمرا.. وفي شبه جزيرة القرم وقتها عدد غير قليل من الطلاب السودانيين الذين يدرسون في جامعاتها ويستمتعون بالحياة في تلك المدن الهادئة الجميلة، ومازلت حتى اللحظة أحن إلى سمفروبل وقد اسرتني بجمالها وطيبة اهلها.. وأعود إلى الواقع الأليم وما يجرى على أرض اوكرانيا وهذه الفتنة التي لا لم يخمد أوارها وفقدت اوكرانيا شبه جزيرة القرم في أيام معدودات... وروسيا هي المستفيد الحقيقي من كل الذي جرى!!! مع حيرة واضحة لدول غرب اوروبا وهي تقف مكتوفة الأيدي بين مصالح هنا وهناك تربطها مع روسيا ومعادلات صعبة يحتار فيها الحكيم والخبير..!