في خطاب أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه خطاب عابر للقارات وجّهه الرئيس فلادمير بوتن للأمة الروسية والعالم سواءً بسواء، وقد حظي هذا الخطاب باهتمام العالم بأسره، وكان صداه عالمياً، حيث إن ستة وعشرين ألف موقع في الشبكة العنكبوتية تناولته باهتمام بالغ..!! بدأ الخطاب أول ما بدأ بالتأكيد على وحدة الأراضي الروسية وحماية حقوق المواطنين الروس أينما وجدوا، كما بدأ الحديث عن الحدث التاريخي في شبه جزيرة القرم والتي جرى فيها استفتاء لتقرير مصير شبه الجزيرة الذي شارك فيه «82%» من سكان شبه الجزيرة، حيث صوّت لصالح تقرير المصير منهم وبنسبة فاقت «96%». تاريخياً تتبع شبه الجزيرة لروسيا، وقد استوطنها التتار قبل عدة قرون ودارت الحروب في شبه الجزيرة، وآلت بعدها للإمبراطورية الروسية، وفي العام 1954 أصدر نيكيتا خروتشوف مرسوماً بضم شبه الجزيرة إلى أوكرانيا. يقول الرئيس بوتن إن كل شيء في القرم يتحدث عن التاريخ المشترك بين القرم وروسيا، والروابط العقائدية المشتركة والقاعدة الثقافية والحضارية والقيم الإنسانية التي توحد كل من شعوب روسياوأوكرانياوبيلاروسيا. إن القرم تمثل خليطاً فريدًا من نوعه من حيث السكان والثقافة والتقاليد، وهذا ما يجعل القرم يشابه روسيا ككل حيث إن العرقيات الإثنية بقيت في روسيا على مر العصور، وكذلك الأمر في القرم حيث يعيش الروس والأوكرانيون والتتار وبقية الإثنيات جنباً إلى جنب، يحافظون على هويتهم، وتقاليدهم ولغاتهم ومصيرهم. يبلغ تعداد سكان القرم «2.2» مليون نسمة، منهم «1.5» من الروس «350» ألف أوكراني، الذين يعتمدون اللغة الروسية لغتهم الأم، كما يوجد ما بين «290 300» ألف من التتار القرم، وقد بين الاستفتاء ميلهم نحو روسيا. حقيقة أن التتار عُوملوا معاملة سيئة مثلهم مثل الشعوب الأخرى إبان الحقبة السوفيتية. وهناك أمر واحد يمكن أن أقوله هنا، إن ملايين الناس من مختلف الإثنيات عانوا خلال فترة التصفيات وفي مقدمتهم الروس. إن تتار القرم عادوا إلى وطنهم، وأنا أؤكد أننا سنصدر القرارات والقوانين التي تضمن لتتار القرم حقوقهم كاملة وتبرئة اسمهم النظيف. حين تم ضم القرم لأوكرانيا لم يتم سؤال السكان عن رغبتهم، بل ووجهوا بالأمر، وقد صُدموا لماذا فجأة تم ضمهم إلى أوكرانيا، هذا الإجراء تم في إطار حدود الدولة الواحدة، حيث كان من المستحيل تخيل أن أوكرانياوروسيا يمكن أن ينقسما إلى دولتين، وعموماً حدث هذا الانقسام. وسوء الحظ أن الذي كان مستحيلاً أصبح واقعاً اليوم، تفتت الاتحاد السوفيتي وتطورت الأمور، وقليل من الناس أدركوا دراماتيكيتها وكيف سيكون حالهم. الكثير من الناس في كل من روسياوأوكرانيا كما في بقية الجمهوريات وضعوا آمالهم في «الكمنولث» للدول المستقلة الذي تم إنشاؤه في ذلك الوقت كشكل جديد، حيث العملة الموحدة، وفضاء اقتصادي واحد، قوات دفاع مشتركة. عموماً تحول كل هذا إلى وعود فارغة، بذهاب الدولة الكبرى. هذا انتهى إلى أن القرم أصبحت جزءاً من دولة أخرى، أن روسيا تدرك تماماً أن القرم لم تسرق منها إنما تم نهبها.! إن علينا الاعتراف أن روسيا نفسها ساعدت على انهيار الاتحاد السوفيتي، و حين تم تقنين الانهيار وتشكلت الدول نسي الجميع أمر القرم وسيفا ستوبل القاعدة الأساسية لأسطول البحر الأسود الملايين ذهبوا إلى مضاجعهم في دولة واحدة، وحين أصبح الصباح صحوا في دول مختلفة، وأصبحوا أقليات إثنية في الجمهورية الجديدة. في العام 1991 قال مواطنو القرم إنه تم تسليمنا إلى أوكرانيا كما لو كنا جوال بطاطا، وصعب عليّ أن اختلف مع هذا، ولكن ماذا عن روسيا؟ لقد قبلت الوضع ببساطة. إن البلاد تمر بظروف صعبة بحيث إنها حقيقة غير مؤهلة لحماية مصالحها. عموماً إن الشعب لا يمكن أن يقنع نفسه بهذا الوضع التاريخي وغير العادل. هذا بعض من ذلك الخطاب الناري العابر للقارات الذي يدافع فيه بوتن عن روسيا والإقليم ككل، وقد ظهرت الرؤية الشاملة في الخطاب لأمن روسيا والإقليم، فالأحداث في أوكرانيا كان المقصود منها تطبيق سياسة الاحتواء التي مورست في الاتحاد السوفيتي، والتي تمارس اليوم على روسيا أحد أكبر القوى العالمية. ومفهوم الأمن لدى روسيا مفهوم شامل، فروسيا لا تخشى من عدوان عليها، فهي قادرة على الرد، لكن مفهوم الأمن عند روسيا مفهوم شامل يشمل كل العالم، فما عادت الدولة بمعزل عن الأحداث من حولها طالما هي آمنة، فالأمن في أوكرانيا أو بولندا أو أية دولة مجاورة مرتبط بالأمن في دول الجوار. وقد وجّه الرئيس بوتن خطابه القوي إلى شعب روسيا والقرم وأوكرانيا ودافع عن حقوق روسيا والإقليم، رغم ما تقوم به أوكرانيا من سياسات عدوانية تجاه روسيا. وفي خطابه العابر للقارات وجّه إنذارًا للغرب، أربك كل الدوائر الغربية، وأحدث الانقسام في الرؤى الغربية خاصة في أوروبا وهذا ما سنتعرض له في الحلقة القادمة. دكتور هاشم حسين بابكر [email protected]