محجوب.. يا لهول الفجيعة.. ويا لتلال وجبال الوجع.. وكم أحتاجك يا محجوب.. الآن احتاجك يا محجوب.. أحتاج أن أسند ظهري على ظهرك.. أحتاج أن أرمي همي في تجاويف روحك النبيلة والمستحيلة.. محجوب من بعدك أشكو فزعي وأبث هلعي.. وأصف خوفي.. كنت عندك يا محجوب أرمي حزني وفاجعتي وفجيعتي أطمئن على صدرك الواسع العريض.. هناك أبثك انهزامي والسقوط في جحيم إستسلامي.. كنت تمسح في ثقة ورجالة وجسارة كل أطنان الوجع.. كنت تنفخ في روحي العليلة والتي تكاد تخرج.. تنفخ فيها جذوة الأمل.. فتسري العافية في جسدي الناحل وتدب الحياة الصاخبة في أعضائي.. ثم ترفرف رايات الأمل دفاقة.. محجوب.. عجباً لقوم ينتظرون أن أسكب حروفي رثاءً.. ومن قال إن محجوب قد مات لتنتصب خيمة عزاء بلون الليل.. ومن ذاك الذي يجرؤ على رثاء الشمس أو إحصاء دفقات وأمواج النيل.. من ذاك الذي يمشي في الطرقات ويردد أن محجوب قد مات.. هل تموت الريح.. هل يجف النيل.. محجوب.. أنا لن أكتب حرفاً عن نهر أو بحر أو محيط عطاءك.. لن أكتب حرفاً عن رجل استثنائي.. لن أورد نصاً عن انسانية كانت تمشي بين الناس على قدمين.. لن أسجل صورة عن رجل قهر الموت.. قهر الظلم.. قهر الليل الحالك.. قهر الخوف.. قهر الجبروت.. عجيب أمرك يا محجوب.. وأنت ترد أبداً وتفعل دوماً «رد الجميل».. أي جميل أسديناه إليك وجميلك يطوقنا حتى الرأس.. أشعارك تدهشنا.. تعلمنا.. أفعالك تتمدد صارت ظلاً بل رياضاً للمرضى.. للأطفال.. للمقهورين.. للمشردين.. للمظلومين.. محجوب.. دعني احدثك عن شعبك يوم رحيلك.. بل يوم صعودك إلى أعلى.. لتعانق.. الدوش.. وردي وحميد.. علمتنا يا محجوب كيف نمزق استار الليل كيف نهزم حتى الخوف.. ملآنا الفضاء فضاء أمدر أناشيداً وبيارق.. شباب يتدفق شباباً ونساء.. وكهولاً وشيوخاً وأطفال أخيار وأفاضل.. كنا نزهو ونغني للوطن طبعاً ونحن نحملك على الأعناق.. تدفقنا سيولاً من «بيتكم» وحتى «أحمد شرفي» موكب هز أمدرمان وفاق حتى موكب الأسطورة مانديلا.. عشرة أميال سيراً على الأقدام.. الموكب أوله في بيتك وآخره «يا دوب» يدخل «ميدان الليق».. ركزنا رفاتك في الثرى ويا لك من سعيد يا قبر.. الموكب كله أخيار.. لو تصدق يا محجوب لم يكن فيه شرير واحد.. أحكي لك القصة يا محجوب.. أيقظ خالد محيي الدين يوماً «ناصر».. قال في كلمات مغسولة بالدم مجلدة بالدمع «لقد مات لوممبا».. تهدمت حوائط بنيات ناصر.. ثم هتف «لماذا يموت الأخيار.. لماذا يحيا الأشرار».. لقد كنت سعيداً يا محجوب.. أنا كنت سعيداً.. فقد حملك الشعب الطيب.. الشعب المدهش.. الشعب المعلم.. الشعب الباسل.. كانوا كلهم أخيار.. رجال ونساء.. غاب القمر فسطع الشعب شمساً تحمل شمساً.. تسري الحياة في أوردة شعب يعرف كيف يرد الجميل.. جميلك الذي فاض وتدفق.. أينع وتفتق.. أنا يا محجوب.. انفقت كل دموعي.. كل دموعي.. لم استبقي في عيني دمعة واحدة.. لم أعد بحاجة إلى دمعة ومن بعدك من يستحق ذرف دموع.. محجوب.. مع السلامة.. وسلم على الدوش وحميد.. و«ما تشيل» هم يا محجوب على أميرة ومريم ومي.. أنهم في آخر بوصة من سويداء شعب أحبك حتى الموت..