راي:عبدالمنعم عبدالقادر:إن كانت مدينة حلب أعطت الشاعر أبا الطيب المتنبي شاعر سيف الدولة أمير حلب، إن كانت هذه المدينة الجريحة والأسيرة الآن أعطت في الزمان الماضي الذهبي الشاعر المتنبي الكثير والكثير من الشهرة والزعامة الشعرية، لكن في المقابل الشاعر المتنبي أعطى مدينة حلب المجد والخلود والاستمرار، حينما كتب أجمل وأروع قصائده عن حلب سيف الدولة وفارس الخوريو، فالزعيم السياسي المخضرم الراحل محمد داؤود الخليفة الذي ودعته البلاد والشعب السوداني في موكب مهيب صباح يوم الخميس الماضي الى مثواه الأخير بمقابر أحمد شرفي، حيث ووري الثرى بجانب والده الزعيم داؤود الخليفة الذي كان عضواً بمجلس السيادة في حكومة الزعيم اسماعيل الأزهري، فقد أعطى الزعيم الراحل محمد داؤود أعطى السودان كل تجاربه السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية، أعطاها لبلاده وهو يتصدر الصفوف الوطنية في حل مشاكل السودان الداخلية والخارجية، فكان رحمه الله يتعامل مع الأزمات السياسية والحدودية، وهو وزير للحكومات المحلية ووزير للدفاع بالإنابة، كان يتعامل معها بحنكة سياسية اشتهر بها فكان صدره يتسع لسماع كل الآراء عندما تتفجر الأزمات السياسية والقبلية بغرب السودان، ولقد أشرت بذلك في مقالي السابق وعن مواقفه الوطنية التي يظل يقفها بالداخل والخارج، ويكفيه فخراً أنه تبوأ منصباً رفيعاً بالأمم المتحدة، فكان صوته يجلجل وسط المحافل الدولية حينما شغل منصب كبير المستشارين الزراعيين لبرنامج التنمية للأمم المتحدة، ثم أصبح ممثلاً لمنظمة الغذاء الزراعية الدولية للأمم المتحدة بمدينة بغداد الشاعر الجواهري، ثم أصبح مندوباً شخصياً لمدير عام منظمة الغذاء الزراعية الدولية لدى بعض حكومات الدول العربية لإبرام الاتفاقيات بين تلك الحكومات، وقضى عشرة أعوام يعمل بالأمم المتحدة فقدم استقالته بعد أن أرهقه العمل الدبلوماسي حينما كان وقتها يخاطب الدبلوماسيين الأجانب، وهم ينصتون اليه بتعجب واندهاش عميق عندما شاهدوا العبقرية الدبلوماسية التي كان الراحل الكبير يتحلى بها ويتمنطق بها، فاعجبوا بلغته الدبلوماسية الحصيفة والنادرة عِشْ للدبلوماسية والسياسة وذكرك الميمون «ابا الرشيد وداؤود» للتاريخ عاشا.. حاشا لمثلي ثم مليون حاشا أن يصغر من مقامك السامي ألف حاشا ابا الأكرمين.. فنعم الدبلوماسية وانت تجمعها على كفيك، ونعم الذخر بجمعه لا تعدل ما جمعته داراً ولا ذهباً ولا مالاً، لقد عاش الزعيم المرحوم محمد داؤود عاش بين الناس عامة وهو وزير عاش بينهم يتحسس مشاكلهم المختلفة، فيقوم بحلها بتواضعه الجم الذي اشتهر به، عاش بين قبائل السودان المختلفة لينزع فتيل كل الأزمات التي تقع بين القبائل، ويحقق الصلح بينهم ويجعلهم أسرة واحدة، فكان حتى وفاته موضع ثقة كبيرة بين كل قبائل السودان، وظل يعتبر بلاده وهي تعاني في كل شيء ظل يعتبرها همه الأول بل وهمومه، يشعر بها وكأنه يحملها على ظهره، فقد حملها لأكثر من نصف قرن في قلبه فكان همه الأول والأخير هو السودان، وكان ينزعج كلما وقع صدام دموي بين بعض القبائل بالغرب، هذا الهاجس كان يؤرقه فكنت كلما دخلت عليه بمنزله بالعمارات أشاهده مهموماً ومفجوعاً على ما يجري في اقليم دارفور، وهو الذي نذر حياته ووقته يوم أن كان وزيراً عام 1968 في الزمن الجميل.. نذر كل شيء للوطن الذي عشقه وعمل من أجله في نشر الاستقرار والوئام بغرب السودان، وهو الذي جعل كل قبائل السودان يومها تعيش الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهو الذي جمع ما بين السياسة والدبلوماسية في قالب واحد مثل صديقه الهميم الاتحادي الراحل الشريف حسين الهندي وزير المالية الاسبق، كانا عندما يتلقيان سوياً بدار الزعيم محمد داؤود كانا يشكلان خريطة استقرار السودان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. إن حياة الراحل الوزير محمد داؤود كانت حافلة بالمواقف الوطنية، والمواقف السياسية، والمواقف الإنسانية التي تهز المشاعر وتدغدغ القلوب والوجدان، فقد كان رحمه الله رجل بر واحسان، ما من صاحب حاجة طرق بابه إلا واستجاب له وظل حتى وفاته تمتد أياديه البيضاء الى الكثير من الأسر والفقراء والمساكين والأرامل، فكان صاحب أيادٍ بيضاء على المئات من أبناء الشعب السوداني، فبكاه الجميع بحرقة وحزن بكيتك هامة تعلو الزعيم محمد وهامات الرجال بلا انحناء.. ويا صاحب القلب الكبير وياوزير الإنسانية والانصاف والنزاهة والطهارة فقد كان تشييع جثمانه الطاهر أيام المأتم كان استفتاء شعبياً للزعيم محمد، فقد اجهش الناس بالبكاء وكيف لا يبكون فارس السياسة، وفارس المروءة والشهامة وفارس الجود والكرم والإحسان.. رحم الله السياسي المخضرم محمد داؤود وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء (إنا لله وإنا اليه راجعون).