كان الشيخ الهميم أبرز ممثلي أهل الباطن، وقد فشل أهل الظاهر في تطبيق نصوص الشريعة على حالته، إذ أنه من وجهة النظر الفقهية كما ورد فى الطبقات «خالف كتاب الله وسنة رسوله». وبدلاً عن حده، فقد أوقع الولي - الهميم - حالة «العطب» على القاضي بالدعوة عليه حتى «انفسخ جلده». ولقد اتهم الهميم حينها الفقهاء بمحدودية الرؤية وقصر النظر، وردد هذه الأبيات: فان كنت يا قاضى قرأت مذاهباً فلم تدر يا قاضى رموز مذاهبنا فمذهبكم نصلح به بعض ديننا ومذهبنا يعجم عليكم إذا قلنا قطعنا البحار الذاخرات وراءنا فلم يدر الفقهاء أين توجهنا. معنى ذلك، أن الفقه عند الصوفية هو بعض دين، لذا، فالتمسك الجامد بالنص الفقهي كان حالة يضيق منها حتى العوام، وتستفز النسوة في مد ألسنتهن بتعيير الفقهاء،، قالت إبنة الشيخ دفع الله أبو إدريس: «يا يابا ناس ولد عبد الصادق ملكوا الفنج والعرب....إنت ومحمد اخوي، بلا قال المصنف قال المصنف ، ما سمعنا لكم شِي». ولسوف نتبين من بعد أن الصراع بين الفقه والتصوف لم يكن مذهبياً فقط، بل كان سياسياً أيضاً، وأن الصوفية حاصروا رؤية الفقهاء، نظرياً وعملياً، فلم يعد من سبيل إلى فرض النص على الواقع،، مع أن الناس وحكامهم كانوا يسترشدون بنصوص من الشريعة في تنظيم الحياة الإجتماعية. برع الصوفية في نقد الفقه والفقهاء، وفضح رؤيتهم النقلية في التعامل مع المشكل الاجتماعي، لكن الفقهاء أورجال الدين عموماً ، كانوا في حالات قربهم من السلطان يثأرون بالكيد للصوفية حتى القتل، عن طريق إدانة تأويلات الصوفية للنص و تكفيرهم، بانتقاء الألفاظ الصادحة في لغتهم الرمزية ، «على أساس أنها» ليس لها في القرآن نسب سوى التأويل المتعسف المفتعل. بعد تجربة نقد الفقه ، تطور الموقف الفكري، و ظهر ما سمي في مرحلة لاحقة « تجديد الدين»، وكان الدكتور حسن الترابي هو اعلى الأصوات المنادية بذلك في النصف الثاني من القرن العشرين . في القرن التاسع عشر كان الإمام المهدي هو رائد التجديد ،، وقد سار المهدي على نهج أسلافه الصوفية في نقد العقل الفقهي، لكنه اتخذ خطوة جريئة لم يسبقها عليه أحد ،هي أنه أوقف العمل بالمذاهب الفقهية الأربعة واتهمها بأنها «المسؤولة عن إقامة السد في وجه منابع العرفان». كما انقلب المهدي على التطرق وفرض رؤيته للشريعة بتحكيم المنشور، والمنشور المهدوي «قانون ذو طبيعة خاصة أشبه باللائحة». وإذا كان الصوفية الأوائل قد فضحوا قصور مذهب الفقه، فان الامام المهدي قد أزاح المذاهب واتهمها بالقصور عن تلبية حاجيات عصره، ولو كانت نصوص المذاهب، وهي ما ينادي به الفقهاء الآن، إذا كانت تلك النصوص هي طريق الخلاص فما الذي يجعل الامام المهدي يلغي مراجعها الأصيلة؟. في الواقع إن الامام المهدي كان أكثر تقدمية من الأخوان المسلمين، الذين تنحصر مواقفهم بين نقد وتأييد آراء الدكتور حسن الترابي بميزان البعد أو القرب من نصوص المذاهب الموروثة. والمعلوم أن مؤلفات الدكتور الترابي في عناوينها «تجديد أصول الفقه، تجديد الدين»، وفي جوهرها المشايع للاسشتراق على ثوريتها تنتكس في بيعة النميري إماماً للشريعة على هدي المذاهب الأربعة، وحيث لا يجد الترابي سبيلاً لنشرها في الناس الا بسلطة انقلابية قاهرة!. هناك تشابه حدّ التطابق بين المهدية والانقاذ في الوجه الثوري، وفي تعمُد الغاء الآخر، وفي محاولة استغلال الصوفية، و الاستفادة السياسية من الزخم الصوفي باستثارته واستغفاله.