ü هذه إضاءة على الأركان المعتمة في قضية أو قصة العلاقة بين شركة السودان للأقطان وشركة ميدكوت التي شغلت الصحافة والناس لما يقارب العام باعتبارها إحدى مظاهر الفساد التي قادت أصحابها إلى غياهب الحراسات والسجون. ü وأنا أتابع القضية واطالع كل ما يستجد فيها، وآخرها «التحكيم» الذي رفضه البرلمان، تذكرت صديقي القديم المحامي عادل عبد الغني. بيني وبين عادل معزة كبيرة، تحمله وتحملني على أن «أمُون عليه» كما يقول الشوام أو أن «أتدلل» كما يقول العراقيون أو أن «آمر» كما يقول المصريون، بمعنى أنني أملك العشم أن أطلب منه ويستجيب بلا تردد إعمالاً لهذه المعزة والمودة. ü وعادل، كما أعرفه ويعرفه غيري من أصدقائه وزبائنه، فهو محام وحقوقي ضليع اشتهر بالفطنة والذكاء وخفة الظل وسرعة البديهة.. كما أن انحيازاته الفكرية والاجتماعية معروفة أيضاً، فهو مّمن يمكن تصنيفهم بالمثقفين الوطنيين الديمقراطيين المدافعين عن الاستقلال الوطني والحرية والعدالة الاجتماعية.. لكن هذه الانحيازات لا تمنعه- بحكم المهنة- أن يتصدى للدفاع عن المظلوم أو حتى عن الظالم باعتبار ذلك من صميم مطلوبات مهنة المحاماة أو القضاء الواقف الذي يساعد القضاء الجالس في الوصول إلى الحكم أو «عنوان الحقيقة» بتدقيق الوقائع وتكييفها من وجهة النظر القانونية المحضة. ü لساعات طويلة على مدى يومين دخلت مع عادل في حوار ونقاش، ابتدرته بأن طلبت منه أن ينسى المكايد والحيل القانونية المشروعة أمام المحاكم، وأن يتحدث إليّ بما يراه حقاً دون الاستفادة من الثغرات التي يمكن فتحها في جبهة «الإتهام» عبر هذه الحيل أو ال(Intrigues) التي يلجأ إليها المحامون لإنقاذ موكليهم أو التخفيف عنهم أمام المحاكم.. ذلك لأن عادل عبد الغني هو محامي محيي الدين عثمان العضو المنتدب لشركة «ميدكوت» وأحد أعضاء الدفاع في قضية «الاقطان وميدكوت». ü استجاب عادل لطلبي كما توقعت، وقال: سأقول لك الحقيقة- كما أراها- بكل وضوح وسأجيب على اسئلتك من خلال الوقائع التي بين يدي من واقع الأدلة والمستندات ومن خلال متابعتي للتطورات والتداخلات التي شهدتها القضية، فما يهمني أنا أيضاً هو أن يقف جمهور القراء على الحقائق كما هي بعيداً عن التشويش والإثارة واستدرار عواطف الرأي العام. ü وبما أن المادة التي زودني بها عادل مادة قصة طويلة ومتشابكة ومعقدة، سوف يستغرق عرضها ومناقشتها عدة حلقات تسهيلاً على القاريء، فقد رأيت أن أبدأ من الآخر.. أي من «أصل الحكاية».. وأصل الحكاية لحسن الحظ كان محل اتفاق بيني وبين محدثي عادل.. فاصل الحكاية يعود للرؤية، رؤية النظام الحاكم في إدارة الاقتصاد.. وهي إدارة متأثرة بالسياسة الخارجية والتوجهات الآيديولوجية التي قادت البلاد إلى العقوبات الاقتصادية والمقاطعة، واضطرت النظام للطرْق على «الأبواب الخلفية» لتجنب آثار تلك المقاطعة، وإلى اعتماد «سياسة التحرير» والخصخصة المتعجلة والمشوهة التي لحقت بالعديد من مرافق الدولة وأوردتها موارد الهلاك بلا تحسب.. وهي سياسة لم تقتصر أهدافها وأغراضها، على ما يقال من التخلص من بيروقراطية الدولة وتحريك المواعين الاقتصادية وتنشيطها، بل كان من بين أغراضها أيضاً «التمكين».. تمكين النظام بإغناء منسوبيه والموالين وافقار معارضيه.. والنماذج في هذا الصدد كثيرة ومشهورة.. مؤسسات الاتصالات.. الناقل الجوي «سودانير».. والناقل البحري «الخطوط البحرية السودانية».. مشروع الجزيرة والمحاولات المتعثرة.. وغيرها. ü وفي ما يخص هذه الإضاءة، فإن «شركة السودان للأقطان» كانت في الأصل «مكتباً» تابعاً لإحدى الإدارات بوزارة المالية، ومهمة هذا المكتب هي طرح القطن الصادر في الأسواق العالمية للغزّالين، ثم جاء وقت تحول هذا المكتب إلى شركة، تحت مسمى «شركة السودان للأقطان» وهي شركة عامة وحكومية بنسبة 100% ، ومهمتها كما «المكتب» الذي ورثته هي تسويق صادر القطن للغزّالين مقابل عمولة محدودة هي 3%.. وفي وقت لاحق، وإثر التدهور الذي أصاب انتاج القطن وتراجع مساحاته المزروعة نتيجة للاختلالات التمويلية والإدارية التي شهدتها أكبر مشاريعه «مشروع الجزيرة»، ومن باب «الايمان» بالخصخصة بديلاً لسوء الإدارة الحكومية لجأت الدولة ممثلة في وزير الزراعة الاسبق المرحوم مجذوب الخليفة إلى رجل الأعمال السيد محيي الدين عثمان، وقدمه الوزير الخليفة إلى الدكتور عابدين محمد علي مدير شركة السودان للأقطان.. المحامي عادل لا يعرف تفاصيل العلاقة بين الخليفة ومحيي الدين، ولكن هذا ما اطلع عليه من موكله عن بداية تلك العلاقة بين الرجلين- والشركتين في ما بعد. ü مجذوب الخليفة أوضح لعابدين إن محيي الدين يمكن أن يتعاون في جلب التمويل اللازم لاستيراد مدخلات الانتاج والمساعدة في اقالة عثرة القطن.. ولهذا الغرض قاموا في وقت لاحق (2005م) بتسجيل شركة باسم «ميدكوت» بقرار من مجلس إدارة شركة الأقطان.. ينص القرار بوضوح بأن من أغراض الشركة المساعدة في توفير التمويل والمساعدة في العمليات الزراعية بهدف التغلب على التعثر والشح الذي يواجهه محصول القطن. ü هكذا كانت البداية، وكذا كان أصل الحكاية.. الحكومة ممثلة في وزير زراعتها هي من قادت محيي الدين وعرّفته على مدير الأقطان عابدين وطلبت منه التعاون معه.. وقررت شركة الأقطان عبر مجلس إدارتها تأسيس شركة «ميدكوت» لجلب التمويل والآليات ومدخلات العمليات الزراعية لتعظيم انتاج القطن وصادراته.. فإذا كان هذا هو الهدف المعلن، فكيف كانت الوسائل لبلوغه، هذا ما سنقف على تفاصيله عبر «فصول الرواية» المأساوية التي زودنا بها محامي الدفاع عادل عبد الغني.. (نواصل)