كان أستاذنا محمود أبو العزائم هو المدرسة الإعلامية التي تشربنا منها الكثير في العمل الإذاعي، ولم تنقطع صلتي به، حتى بعد أن كف بصره، وصار يجلس في مكتب خاص به بالقرب من صينية (القندول) بالخرطوم. ورغم انفضاض السامر، وتحول الزمان وتباعدنا عن حياض الوطن في الإغتراب الطويل المسيخ، إلا أنني كنت أحرص على التواصل مع هذا الرجل الجليل، والذي كان يسعد بذلك التواصل من أبنائه، فيفيض بذكرياته العذبة المتدفقة، كما أن عطاءه الإعلامي القوي لم يتوقف، بل كان حاضراً وفاعلاً ومتفاعلاً مع الحياة بزخمها الصاخب، وإيقاعها المتسارع في بلادنا من خلال عموده اليومي في صحيفة (أخبار اليوم) الغراء. قبل 37 سنة من هذا اليوم في عام 2014م كان مكتب الأستاذ أبو العزائم في الإذاعة، مجمعاً ومنتدى لرجال الفكر والأدب في تلك الفترة، وقد نجح بامتياز في انطلاقة إذاعة صوت الأمة السودانية التي شكلت مدرسة جديدة في العمل الإذاعي في بلادنا، فلم تتقوقع في الأشكال الإذاعية الجامدة، ولا بالدورة الإذاعية التي تعتمدها وتتبعها الإذاعات عادة، بل كانت الفكرة الجيدة أو الجديدة، تجد عنده الطريق ممهداً للتنفيذ، وكان الأستاذ لا يتوانى في مكافأة الجميع، ولا يضع حداً أعلى للمكافآت- كما يفعل بعض المدراء ذلك- فدمروا العمل الإذاعي فالمبدعون- كما كان يراهم- يستحقون أكثر مما يعطون من مال، لأنهم نادرون ومؤهلون فهم معلمو الأمة والمرفهون عنها، والشاحذون لهممها عند الطوارئ، وهم جنود يذودون عن الوطن باللحن والكلمة، الكلمة الشاعرة والكلمة المنثورة والكلمة المغناة، وقد قام الأستاذ أبو العزائم باستقطاب الكثيرين من المبدعين من خارج الإذاعة، وكان أكثر من تداعوا لدعائه زملاؤه والصحافيون الذين أسهموا بأقلامهم وحواراتهم في إثراء العمل الإذاعي. وتحت إدارة ذلك العبقري، أنصهرنا نحن المذيعين الرسميين، في بوتقة العمل المكثف، والغريب أن هذه الإذاعة كانت تضم أبناء السودان كله أي من أقاليمه كلها، مثل بوتقة صهرت الوطن كله في نسيج اجتماعي مهني إبداعي متميز، شكل (رمزية لوحدة السودان الحبيب) التي نتمناها كلنا ليكون شامخاً قوياً منسجماً متناغماً لينطلق إلى رحاب التقدم والسلام والرفاهية لشعبه الطيب، فكان هناك القادمون من الجزيرة -(كشخصي مبارك خاطر، وعاصم محجوب، وفاطمة السنوسي)، وكان هناك أولاد العاصمة مثل محمد إبراهيم علي، وصلاح التوم، والفاتح الصباغ، وسيد أحمد إبراهيم، وفريد يوسف، وأولاد عطبرة) صلاح حواية الله.. وشندي (علي سلطان، وهاشم ميرغني، وعبد الحفيظ)، ودنقلا (عباس ساتي، وسر الختم عثمان الأمين، ومحمد الحسن محمد علي)، وكسلا (أحمد حسين)، ودارفور (أحمد آدم صالح).. وجبال النوبة (حماد أبو بطرس).. وسنار (الهادي المبارك الفكي عبد الله) والنيل الأبيض (عثمان شلكاوي خوجلي شلكاوي) وجونسون لتبوي لوم من جنوب البلاد، والمترجم أحمد حسين من الشرق (كسلا)، ويحف بنا الأستاذ القدير والمهذب الصامت الأريب محمد عبد الله عجيمي، والإذاعي القدير الخير عبد الرحمن، اللذان كانا يساعدان أستاذنا في البرمجة والإدارة، بجانب الزميل محمد إبراهيم علي رحمه الله. بعد مرور أكثر من سبع وثلاثين سنة على تلك الأيام، هناك ملامح وإشارات وإنطباعات عدة من زملاء المهنة ومنهم- كما أشرت أعلاه- الأستاذ الفاتح الصباغ، الذي امتدت علاقتنا به نحن شباب المذيعين وقتها إلى أسرته الصغيرة، قبل أن يتأهل بالزواج، كنا نحضر إلى داره العامرة في محطة (شقلبان) الثورة الحارة الثامنة، فنجد (حمدي أخوي) كما كان يطلق على شقيقه الصغير الذي كان في سننا، كما تعرفنا على والده العم (سيد بشير الصباغ)، ووالدته وأخيه بشير رحمهم الله، وأخيه فريد الذي كان يعمل في (دبي) وكنا نشعر باحترامهم الشديد له، وكان (الصباغ) يمتلك عوداً، فيبدأ بالعزف عليه وترديد أغنية أحمد المصطفى (حرام يازاز تزيدي البي.. وهبتك روحي ونور عيني.. هواي ليك ونارك لي)، كان الفاتح مذيعاً متمكناً سعدنا بالتعلم منه، والفاتح الصباغ صورة طبق الأصل لمذيع سعودي كبير وموهوب ومتميز وأستاذ بحق هو الأستاذ (حسن التركي)، فكلاهما يملك الأساسيات لهذه المهنة، وكلاهما يملك الحس الإبداعي الكبير، والروح المرحة، والملاحظة الذكية، والسخرية اللاذعة، والقدرة على الإبداع، وحب المهنة، وهي من أهم عناصر نجاح المذيع وتفرده، وإن كان الأستاذ (حسن التركي) أكثر صبراً وجلداً على المهنة، أما (الصباغ) فحصر نفسه في مجال قراءة نشرات الأخبار، بينما كان بإمكانه توسيع دائرة عطائه، والآن كلاهما يعاني من علة مرضيه نسأل الله لهما الشفاء. في عام 2013م زرت منزل أستاذنا(الفاتح الصباغ) فوجدت المنطقة كلها قد تغيرت، فقد زاد العمران الحديث، واشرأبت في الأفق إشارات المرور، وتغيرت بوابة البيت الكبيرة بأخرى جديدة، وللأسف لم نحظ بلقاء الأستاذ الذي كان خارج الدار، ورحب بنا ابن أخيه فريد بحرارة، وأصر على بقائنا إلا أن الوقت لم يعد كما كان عليه قبل 37 عاماً، فقد تغيرت ارتباطاتنا والتزاماتنا ولم نعد نملك الوقت كما كنا نمتلكه في تلك العهود كما كالحردلو يقول: كم شويم لهن وقتن كتير فوق ناقة زمنن في طرف ريسة وشوية فاقة عكسنا الدهر كترت علينا العاقة ونحن برانا يا عبد الله كيف نتلاقى الخير عبد الرحمن كان أستاذاً لنا فهو إذاعي قدير، ومتمكن وله صوت قوي متفرد وثقافة غربية غزيرة، وهو قارئ للنشرات الإخبارية باللغة الإنجليزية في الإذاعة والتلفزيون، كان نائباً لأستاذنا (أبو العزائم) في إذاعة صوت الأمة السودانية، فكان نعم الإداري القدير، هو مُقل في الكلام، ساخر بإسلوبه الهادئ، كان من أكثر من دافعو بمواهبنا إلى آفاق العمل الإذاعي وقد تشرفت بزيارته في بيته بحي الملازمين في آخر أيام حياته، فكان كريماً سخياً، وقد رحل في صمت عن هذه الفانية، في أوائل التسعينيات، لكنه سيبقى في قلوب تلاميذه الذين يدعون له بالرحمة والمغفرة وفسيح الجنات. كانت تلك الأيام، عامرة بالعطاء والجهد والسعي بين الإذاعة والجامعة والمكتبات الجامعية، كانت أم درمان بالنسبة لنا وطناً، فهي أقرب إلى نفوسنا القروية التي لا تألف العمارات السوامق- كما يقول الشاعر محمد الحسن حميد في القصيدة التي شدا بها مصطفى سيد أحمد رحمه الله: يا ماشايلك فيني حايم.. لا الليالي المخملية لا العمارات السوامق.. لا الأسامي الأجنبية بتمحى من عيني ملامحك وإنت جايه المغربية.. داقسة دايشة المغربية وشك المكبوت مكندك.. سمصونايتك زمزمية وللحديث صلة إن شاء الله.