أمضى رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي ساعات «حلوة» وهو بين أنصاره وقواعده بمناطق «الحلاوين» بالجزيرة أمس الأول وعاد للخرطوم بعد أن نفذ هجوماً قاسياً على جهاز الأمن والمخابرات الوطني والقيادة السياسية، ولعله لم يدر بخلد الرجل الذي اشتهر بتنفيذ عمليات خالدة في الذاكرة السياسية ومنها عمليتا «تهتدون» في ديسمبر 1996 التي غادر على إثرها البلاد سراً وإن كانت هناك أقاويل أشارت إلى أن المسألة صنيعة أمنية واكتملت أركانها تحت سمع وبصر الحكومة. و«تفلحون» ذلك المسمى الذي أطلقه الصادق على رحلة عودته للبلاد في نوفمبر 1999 لم يدر بخلد الإمام أن الحكومة تنوي هذه المرة تنفيذ عملية يمكن أن تسمى «تُحسمون» وذلك باعتقاله وإيداعه سجن كوبر الذي تردد عليه المهدي مراراً في مشواره السياسي الطويل. وقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي خاصة «الواتساب» مساء أمس الأول لحظة اعتقال المهدي من منزله بالحي الأمدرماني - الملازمين - وأبدى كثيرون تخوفهم من الظلال السالبة التي ستخيم على الحوار الوطني والصادق أبرز لاعبيه الرئيسيين، بل تكهن البعض بانهيار الحوار، لكن القبض على المهدي الذي طرد لعنة «المعتقلات» منذ نحو عقدين يلفت الانتباه لعدة معطيات: أولاً: واضح أن المهدي تجاوز الخطوط الحمراء ليس بالحديث عن جهاز الأمن والمخابرات الوطني والذي ظل محل انتقاد من عدة واجهات سياسية، فالمطالبات بتغيير القوانين المقيدة للحريات قطعاً قانون الأمن واحد منها، فضلاً عن حديث المعارضة بوجود مضايقات وهي إشارة للأمن والمخابرات لكن الصادق تحدث عن قوات الدعم السريع والتي توليها الحكومة اهتماماً خاصاً ومن أعلى مستوياتها، إذ بهذه القوات تريد الحكومة حسم التمرد بدارفور وسحقه. ثانياً: انتقاد المهدي لقوات الدعم السريع مثل دعماً ومناصرة قوية لأطراف خارجية خاصة إذا نظرنا إلى أن ثمة محاولات في مجلس الأمن الدولي كانت قد بدأت بهدف إدانة قوات الدعم السريع. ثالثاً: مطالبات المهدي بمحاسبة الدعم السريع الهدف منها محاسبتها خارج الحدود.. ما يعني المحكمة الجنائية وبالمقابل يمثل حديث المهدي إعادة لسيرة اتهامات الجنائية لقيادة الدولة وبالتالي من غير المستبعد أن يكون قرار اعتقال المهدي صدر من مستويات عليا «جداً». رابعاً: أرسلت الحكومة من مسألة الاعتقال رسالة لكل من يحاول تجاوز الخطوط الحمراء، فما من أحد كان يتوقع اعتقال المهدي خاصة في هذا التوقيت الذي حدث فيه انفراج كبير في الحريات من خلال إقامة الندوات وتناول الصحف لقضايا التجاوزات. خامساً: نفذت السلطات الاعتقال وهو أشبه بالخطة «ب»، حيث لم يستوعب المهدي الخطة «أ» والتي تمثلت في المؤتمر الصحفي الذي نظمته قيادة قوات الدعم السريع وصبت فيه جام غضبها على المهدي وصلت حد وصفه ب «الأبكم» ولكن واصل المهدي انتقاداته في زيارته للحلاوين وقال ما قال في حق الأمن، بل والرئيس كذلك. قد يقول البعض إن بالحكومة تيارات متصارعة أو اعتبار أن هناك تيارين عسكري وسياسي من خلال تصريح القيادي بالوطني مصطفى عثمان ووصفه ما جرى للمهدي ب «المؤسف»، لكن السياسة في العادة قائمة على مرونة وخشونة و«طرف يرخي وآخر يشد» خاصة وأن التيار العسكري السياسي - إذا جاز التعبير - فيه فرعان «عسكريون وهم أبناء الجيش في الحكومة، وامنيون أمثال د. نافع علي نافع»، وكان الأخير ممن انتقدوا وبشدة موقف المهدي من قوات الدعم السريع.. وهذا يقودنا للتساؤل حول مستقبل عملية الحوار الوطني التي علق عليها الكثيرون الآمال لتجاوز الأزمة السياسية.. وهل من آراء مناوئة داخل الحكومة بشأن الحوار حيث هناك حزمة مؤشرات: أولاً: سباحة المؤتمر الشعبي في بحر الحوار يجعل الحكومة تطمئن كثيراً كون المهدي وحزبه ليسا قطباً أوحد، إذ يمثل الشعبي كفة ترجح الأمة القومي. وهنا نقول إن الشعبي لن يستجيب لمطالبة أنصار المهدي بإعلان التعبئة والتي تعني الخروج للشارع وذلك أن الشعبي لم يخرج في احتجاجات سبتمبر. ثانياً: رغم أن قيادات الأحزاب تواجدت بالأمس في دار حزب الأمة ورسمت لوحة تضامنية وشهدت المؤتمر الصحفي الذي نظمة «الأحباب» مناصرة لزعيمهم، إلا أن كثيراً منها له مرارات مع المهدي شخصياً كونه ظل يبيع المعارضة في أحلك الظروف وكثيراً ما ظل القيادي بالاتحادي الأصل د. علي السيد يردد هذا الحديث، بل وسبق له اتهام المهدي بإطالة عمر الإنقاذ وتعاونه مع الأمن. ثالثاً: الاعتقال جعل الأنصار يسجلون اعترافاً ضمنياً أن نجل المهدي - مساعد الرئيس عبد الرحمن الصادق - يمثلهم في الحكومة عندما طالبوه بالاستقالة من منصبه وفي وقت سابق كانوا يقولون إن المشاركة تخص عبد الرحمن مع أن الأخير لم يستقل رسمياً من حزب الأمة حتى الآن، وهو شخصية محورية يراهن عليه البشير شخصياً. رابعاً: الحكومة اعتقلت المهدي وبقلب قوي إذ تدرك أنه سيخسر إذا نفض يده من الحوار مستقبلاً، حيث بإمكانها فتح خطوط «من جديد» مع لاعبين جدد أمثال مبارك الفاضل - الخصم اللدود - للمهدي والذي يمكن أن نعتقد جازمين أن عودته تمت باتفاق مع الحكومة وأجهزتها الخاصة، إذ بالإمكان أن يفيدها في مجال آخر وهو الاستثمار خاصة في المحيط العربي والأفريقي الذي يتمتع فيه بعلاقات راسخة مثله ومدير جهاز الأمن السابق صلاح عبد الله «قوش». خامساً: من الممكن أن يرهق حزب الأمة الحكومة من خلال إعلانه في مؤتمر صحفي عقده أمس التعبئة العامة ضدها، لكن المعروف أن مواقف الأمة القومي لا تتعدى المسألة السلمية التي لم تعد ترعب الحكومة على الأقل إن برزت من جانب «الأحباب». سادساً: اعتقال المهدي قد يفرمل قطار الحوار لكن الحكومة عينها على أمر أكثر أهمية - في نظرها - وهو التحاور مع حملة السلاح، إذ أن من أهم عوامل نجاح الحوار هو التوافق مع حملة السلاح، وقد أكد مساعد الرئيس إبراهيم غندور استعدادهم للحوار مع قطاع الشمال سيما وأن الوسيط الأفريقي ثابو أمبيكي يوجد هذه الأيام بالخرطوم. ومهما يكن من أمر فمن المتوقع أن يطوي الرئيس البشير شخصياً ذلك الملف بتوجيهه إطلاق سراح المهدي ويصبح الاعتقال مجرد حلم مزعج.