الشكوى لا تجوز من السالك، إذ عليه أن يتحمَل الأذى ويبذل الخير، ويطعم الطعام، ويصلي في جوف الليل، ويجعل الصلاة على النبي شغله الشاغل... ولصوفية السودان تفردهم في التعريف والتعبير عن التجربة ومشاهدها.. رُوِيّ عن أحد المشايخ، قوله بإن اسم اسم الله الأعظم هو : «الكِسرة»، وفي رواية أُخرى قيل :«المديدة ».. وجاء في الطبقات على لسان الشيخ صالح بن الشيخ بأن النقا، الخليفة الثالث للقادرية في زمان الفونج قوله، إن الحضرة النبوية التي عُقِدت لولايته كان قد رأسها النبي صلى الله عليه وسلم، وأن سيد الخلق وضع بيده الشريفة عُمامة التتويج فوق رأسه وقرّبه إليه، لأنه أي الشيخ صالح كان يتوسل بالصلاة عليه.. ومضى الشيخ صالح في رواية لمشهده فقال، إن الشيخ عبد القادر الجيلاني في تلك الحضرة، بالإطعام وقراءة «دلائل الخيرات».. لكن الشيخ صالح،، ذهب في تلك الحضرة شاكياً من أحد ملوك الدنيا لأنه سلب منه مالاً.. قال الشيخ صالح الذي أُشْهِدَ ذاك المشهد، إن الشيخ الجيلاني الجيلاني "صَرَّ وجهه عليّ ، وقال للرجال الجالسين معه: أنا أكلمه في الآخرة وهو يكلمني في الدنيا"..!؟ وقد تماثلت تجربة التصوف السوداني مع التجارب التي انتظمت العالم الإسلامي، حيث الالتقاء على المنبع الواحد من لدن الحسن البصري المتوفى سنة 110ه/728م، مروراً بالمشايخ الوافدين عن طريق الحجاز، ومصر، والمغرب. وارتبط التصوف في السودان برواد التجربة الصوفية الإسلامية التي تدين بأن التصوف هو تاج الولاية المتوارث في ذراري فاطمة الزهراء، وأنه قبس من النبوة تنقل في عترة النبي صلى الله عليه وسلم، كفكر يتجدد به الدين على رأس كل مائة عام.. (كان على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المائة الثانية الإمام الشافعي، وعلى رأس المائة الثالثة ابو الحسن الأشعري، وعلى رأس المائة الرابعة ابوبكر الباقلاني، وعلى رأس المائة الخامسة ابوحامد الغزالي).. وبعد عصر التدوين، أي في القرنين الثالث والرابع الهجري، كان من مشايخ الصوفية السري السقطي، والامام الجنيد، والخراز، وقد جمعوا حولهم اتباعاً ومريدين وتكونت منهم الطرق كمدارس للتربية الروحية.. وظهرت الطريقة الصوفية بتميزها المذهبي في فرقة (الملامتية) التي انشأها حمدون القصّار، بنيسابور في حوالي سنه271 ه.. فأصبحت الصوفية تدل على أصحاب الوجد الروحي، مِمّن تتباين رؤيتهم الدينية عن رؤية فقهاء النص.. وإلى جانب كلمة (الطريقة) استخدم الصوفية اصطلاح (السلوك)، و(السير إلى الله)،، وغيرها من عبارات تصوير التمرحُل في الأحوال والمقامات،، في معنى أن السير إلى الله (ليس بقطع المسافات وانما بتقريب الصفات إلى الصفات).. أول الطرق التي دخلت إلى السودان هي الطريقة الشاذلية.. وكانت القادرية هي أكثر الطرق انتشاراً بين السودانيين، لتِباعة وتشيخ زعامات القبائل على يد رائدها البهاري.. وبذلك الولاء للجيلاني، غدا ربع كل قبيلة، وكل فخذ، وكل بيت زعامة، مركزا قادرياً يتبع مباشرة لبغداد، بعهد وثيق من شيخ الطريقة السائح في الربوع.. إلى جانب قادرية الوسط وهم تلامذة البهاري، هناك قادرية الشمال، وشيخهم في الطريق التلمساني المغربي الذي قدم على الشيخ محمد ولد عيسي سوار الذهب في دنقلا العجوز، فانداحت أصداء القادرية في ربوع السودان بأفواه مشايخها الكثر، فكانت هي القاعدة، أو الوحدة الاجتماعية الروحية التي نمت عليها السلطنة، ومازال ساحل السودان يستقبل أمواج القادرية المتدافعة ليتجدد الولاء للقادرية على جذور مراكزها السودانية المتعددة. من القادرية تناسلت الطرق الصوفية، وعلى مراكزها في السودان نشأت طرق سودانية يتفاوت التزامها بما عليه حال المركز الرئيسي في بغداد، ويتفاوت كذلك انغماس كل طريقة في السياسة. ونجد أكثر الطرق انشغالاً بالسياسة في السودان هما طريقتا الختمية والسمانية وقد تحولتا إلى طائفتين، قام عليهما أكبر حزبين بعد الاستقلال، هما (الأُمة والإتحادي)...