الصحفية نبوية سر الختم لم تجد بعد الجريدة التي تستحق نشاطاتها. قدمت تجربة كثيفة في التحقيقات وملاحقة القضايا بالتحليل . نشرت الكثير عن الحياة العامة في السودان عامة ولاحقت بالتوثيق الحياة اليومية لقرى المنطقة النوبية. في آرائها جمعت بطريقة خلاقة بين الحياد المهني والمداخلة الوجدانية ! *** الانتماء أشكال وألوان، أكثرها تحضراً هو ذلك النوع الذي يجمع بين(المحلي) البسيط والانتماء(القومي) المركب. الأول لوحده:- عزلة وتعصب ، والاقتصار على الثاني بحجة الهم العام انقطاع عن الجذور. أما الاهتمام بالنوبية فلا نرى فيه تعصباً لسبب بسيط هو أن(النوبية) ليست قبيلة، ولا عرقاً، وإنما مجموعة ثقافية، ومن لم يهتم بهويته الجزئية لا يجوز إدعاء القومية والانتماء الكبير. هذه الوزنة الخلاقة والمرجوة بين المحلي والقومي هي البؤرة المضيئة في تجربة الصحيفة النشطة (نبوية سر الختم) في الجرائد السودانية وهي أيضاً سبب لغتها المتميزة. كتبت في الشؤون العامة عشرات التحقيقات والتعليقات الصحفية وأحياناً المقالات: مواقف عربات، مستشفيات، شؤون محلية الخرطوم، لم تترك حتى تباشير المدارس وفطور الطلاب.. تكتب هناك حتي تظن أن هويتها الجزئية ذابت في قوميتها. أما عندما تعود لتلاحق قضايا قومها في حلفا الجديدة ووادي حلفا بعشرات أخرى من المقالات والتحقيقات تظن أنها لا تعرف إلا قضايا قومها، بل كنت أخشى عليها من أوصاف أنصاف المثقفين الذين لا يفرقون بين الارتباط «بخشم البيوت» والتعصب القومي. فالرمي بالتعصب والجهوية قوالب جاهرة يسترون بها عورة العجز الفكري. رغم أن أمها غابت إلي رحمة مولاها في وقت مبكر من طفولتها إلا أنها ارتبطت ببيئتها ! تابعت تجربتها عن كثب: كان في البداية تبحث لتعرف شيئَاً عن أهلها النوبيين. بدأت بالقراءة للتاريخ بعشق واضح. وهي في سياق عملها الصحفي كانت تكتب مقالات متفرقة، كانت أبرزها المقابلة التي أجرتها مع الأستاذ وردي، هذا الحوار من الألف إلي الياء محصور في الهم النوبي. زادت من جرعة الانشغال بالهم النوبي، وتصدت بكفاءة وجرأة لمشكلة سقوف الأسبستوس المسرطنة حتى أعلنت الأزمة كخبر علي الصفحة الأولي، وتم إعلان حلفا الجديدة منطقة موبوءة بالسرطانات! أجرت تحقيقات عن أزمة المياه في مشروع حلفا الجديدة، وهي أول من أذاعت إنذارًا بخروج القمح من دورة المشروع. بعد ذلك بزمن تم إعلان صريح بتصدع خزان خشب القربة على لسان وزير الري والمدير الزراعي لمؤسة حلفا الجديدة. هذه الإنذارات المبكرة أصبحت فيما بعد عناوين عريضة في الجرايد السودانية. في الصفحة الأولى بعنوان عريض أوردت جريدة الصحافة: ü اتحاد مزارعي حلفا: المشروع خرج نهائياً من دائرة الموسم الشتوي. وبعنوان عريض أيضاً تكتب جريدة «السوداني» بعد ثلاث أشهر: ü أزمة مياه حلفا... ضياع الموسم الشتوي ومخاوف علي الصيفي. ثورة في التوثيق: هذه الاهتمامات الصحفية انتقلت من المرحلة الوسيطة «مقالات متفرقة» إلي دفقة هائلة من الكتابات، تعتبر بحق ثورة توثيقية لهموم بلاد النوبة، توسعت دائرة الأهتمام لتشمل مدينة وادي حلفا ومنطقة السكوت. في محطتي وادي حلفا وجزيرة صاي أفرغت ما يقارب العشرين من الملفات على شكل حلقات متداخلة المفاصل. كثافة المداخلات الوجدانية في هذه المحطة التوثيقية وتشظي(الأنا النوبية) أفرزت عناوين كثيرة حتى أربكت عملية ترقيم الحلقات. من تلك العناوين نختار: ü وادي حلفا بين صافرة القطار والباخرة... ü صاي سفر التاريخ.. الجزيرة التي هجرها أهلها.. ü النقديون.. قصة معاناة لتثبيت وطن... ü حلفا الناشئة تتعثر على خطي التنمية... رغم ضيق الوقت استطاعت أن تنقل لمحات سريعة من مجتمع جزيرة صاي وسوق عبري . أبرز ما يلفت في جزيرة صاي ليست صور الفقر المعتادة بل أن أعاصير العولمة تقتلع ثوابتها التراثية بسرعة ملفتة: فالليالي المقمرة كما تقول الأستاذة ذابت في سهرات الفضائيات واختفت «الأسلي» البلدي في حضرة الفشار... الخ .. المشكلة ليست في القيم الجديدة، ولكن هل يملك المجتمع الموازنات الممكنة التي بها يستثمر الثقافات الوافدة دون أن يتبدل بالكامل لمسخ مشوه...؟ هل مجتمع قائم على التواصل يستطيع أن يتكيف مع حياة العزلة الجديدة التي تفرضها أجهزة «الديجتل» في الغرفة المغلقة؟!! أما في سوق عبري وهي الباقية من أسولق السكوت التي تساقطت بالفقر والهجرة... فالكارثة نقرأها بوضوح في معلومة بسيطة نقلتها الأستاذة نبوية علي لسان أحد التجار، وهي أنهم يعتمدون علي أسواق الخرطوم في جلب الخضروات والفواكه. ولا ندري ما الذي بقي هنا سوي بقايا معابد لا يفهم تفاصيلها سوى الخواجات الذين أقاموا لهم حفلة وداع حضرتها الأستاذة في صاي. الصورة الإيجابية الوحيدة وسط هذا الكم الهائل من الأحزان هي تقلص تكلفة الترحيل بفعل الطريق الذي تم تعبيده حتى الخرطوم. رحلت الأستاذة بقلمها وكاميرتها إلى مدينة وادي حلفا وهناك هبطت كعادتها من وجدانياتها إلى الأرقام. في جزيرة صاي، بدأت بخليل فرح وهو تاريخ قريب، وهنا في وادي حلفا أيضاً بدأت برموز المقاومة والصمود في الستينيات. نقلت على لسان شهود صوراً مختلفة من الصمود في مواجهة المياه الزاحفة والحشرات وهوام الأرض. أما أبرز محطات الوقائع الرقمية التي تنقل صورة الحالة الراهنة فقد كانت في ميناء «رفح» السودانية ونقصد بها ميناء وادي حلفا النهري، والتسمية هنا للتندر من قبل تجار الميناء من حالمين وأصحاب عربات ومخلِّصين وغرف تجارية. الكل يشتكي والسبب تقلص البضائع الواردة لأن التجار هربوا إلي المنافذ الحدودية الأخري كالعبيدية وكريمة وشلاتين، بسبب الأتاوات الباهظة في الجمارك والترخيص والضرائب. ومن غرائب أزمة فشل السياسات الحكومية أن يعلن رئيس التجار بصريح العبارة (ما سمعنا بدولة تساعد التهريب).. ويقدم إدانة أخرى لفشل مؤسسات الحكومة وغياب التنسيق«المحليات ما عايزة تعترف بنا، رغم أنو عندنا شهادة معترف بها».. وهناك أيضاً إشارات خفية لوجود نوع من التعويق السياسي.