المسؤولية التاريخية والآثار الاقتصادية والأمنية كنا قد خلصنا في الجزء الأول من الدراسة إلى أن المؤتمر الوطني لا يحتمل المسؤولية التاريخية الكاملة لفصل الجنوب، لأن مشكله الجنوب وبداية المطالبة بوضع منفصل أو شبه منفصل، بدأت قبل حوالي 50 عاماً، وأثبتنا أن كل الأنظمة المتعاقبة على حكم السودان منذ 1955م وحتى 2005م شاركت بنسب متفاوتة في تعميق احساس الأخوة الجنوبيين بالظلم، والتهميش، والقهر بالقوة العسكرية، خاصة في فترات حكم الثلاث أنظمة عسكرية الماضية نوفمبر، 25 مايو و 30 يونيو، والتي أضطرت إلى اللجوء إلى الحسم العسكري، بعد أن خلفت أنظمة ديمقراطية أهمدت كلها القوات المسلحة، حتى أصابها الوهن والذل أمام قوات التمرد في الجنوب، لذلك خلصت الدراسة في الجزء الأول إلى أن المسؤولية التاريخية لانفصال الجنوب تتحملها الأنظمة الحاكمة منذ 1955م على النحو التالي: الإنقاذ 32%، مايو 32%، 17نوفمبر 12% والأنظمة الديمقراطية 24%. وكنت قد أبديت دهشتي للمحاولات والتشبث من جانب المؤتمر الوطني بغرض الوحدة في الوقت بدل الضائع، واستهلاك ما تبقى من وقت قصير في الترغيب والترهيب للإخوة الجنوبيين، في تصريحات وملاسنات متناقضة غير منتجة وغير مجدية، مثلاً الرئيس يقول: إنه مسؤول عن حماية الجنوبيين في الشمال بعد الانفصال، ومسؤولون كبار يؤكدون غير ذلك بعد الانفصال، لا أرى سبباً واحداً لكل هذ التوجس والتمسك بالوحدة إلا إذا كان ذلك مرده إلى ثلاثة أسباب- المسؤولية التاريخية، الآثار الاقتصادية، والآثار الأمنية.. الجزء الأول أجاب على مسألة المسؤولية التاريخية، وفي هذا الجزء سنحاول إزالة السببين الآخرين. 2/ الآثار الاقتصادية:نظرياً يمكن توقع آثار سالبة لانفصال الجنوب، وذلك بسبب فقدان حوالي ال 75% من الموارد المالية الصعبة، لكن على الأقل ولفترة السنوات الخمس القادمة بعد الانفصال، لن يتأثر العائد المادي لتصدير البترول لشمال السودان، وذلك بالحساب البسيط التالي:الافتراض الأول أن نسبة البترول في الجنوب تعادل 75%، والشمال 25% والعائد السنوي الصافي في على أقل تقدير 7.5 مليار دولار.الافتراض الثاني: إن جملة الاستثمارات في استخراج البترول والأصول الثابتة في الجنوب تبلغ 10 مليارات دولار على أقل تقدير، الافتراض الثالث: إن ديون السودان الخارجية تبلغ 26 مليار يتحمل منها الجنوب فقط 25% والباقي على الشمال (هي الديون المتراكمة) حتى 31/12/2009م تبلغ حوالي 36 مليار بعد طرح ال 10 مليارات كديون على استثمارات البترول، كما في الافتراض الثاني، عليه تصبح باقي الديون 26 مليار دولار.عليه يكون نصيب الشمال بعد الانفصال من موارد البترول على النحو التالي، وذلك على أقل تقديرات: 25% نصيب الشمال من البترول المكتشف في الشمال، يتحمل الجنوب 75% من جملة الاستثمارات في استخراج البترول، والأصول الثابتة في الجنوب والمقدرة في الافتراض الثاني ب (10) مليارات، أي نصيب الجنوب 7.5 مليار دولار تدفع على مدى 10 سنوات، أي 750 مليون دولار في العام 10%، أي ما يعادل 10% من العائد السنوي. يتحمل الجنوب فقط 25% من الديون الخارجية، أي 6.5 مليار دولار تدفع على مدى 10 سنوات، أي 650 مليون 8.5% دولار في العام، أو ما يعادل 8.5% من العائد السنوي للبترول، 7.5% إيجار خط أنابيب البترول حتى بورتسودان 51% أي يكون العائد السنوي من البترول 51% مقارنة ب 50% هي النصيب الحالي للشمال، مما تقدم يتأكد أن الانفصال إذا تم بصورة وديه لن يتأثر الشمال بأي نقص في العائد المادي السنوي من العملات الصعبة، وذلك على مدى 5 إلى 10 أعوام، الأمر الذي يتيح للشمال الوقت الكافي لإعادة الاستثمار، وتأهيل المشاريع الزراعية والحيوانية، والصناعات التحويلية، بما يغطي ويفيض على النقص في الموارد بعد انقضاء فترة السداد أعلاه في 5 إلى 10 أعوام. وفي هذا الصدد يجب أن يسعى المؤتمر الوطني منذ الآن في تحسين علاقاته مع الدول العربية والإسلامية، ودول الجوار الأفريقي، وفتح باب الاستثمار في الأراضي الزراعية على مصراعيه دون قيود لأن وعقبات لكل مستثمر خاصة الحكومات والسماح لها أو لهم بتمليك الأراضي الزراعية وإداراتها دون خوف، لأن المستثمر لن يحملها معه إلى بلده في أي وقت، نحن نملك 200 مليون فدان صالحة للزراعة منها حوالي 25 مليون في الجنوب، أي نملك في الشمال 175 مليون فدان، المزروع حالياً منها 43 مليون فدان فقط من هذه ال 43 مليون فدان، المزروع 1.5 مليون فدان بالري، والباقي بالأمطار، نحن نملك ثروة حيوانية لا تقل عن 135 مليون رأس، وسمكية 100 ألف طن في العام، نحن نملك كل ما هو أغلى وأقيم من البترول المتناقض، نحن نملك الثروات الحيوية للبشر، فلِم الخوف والوجل والتشبث بما هو زائل، يجب أن لا نستهين بما حباه الله عز وجل علينا من نعم الحياة ومصادر بقاء الإنسان- الماء والغذاء نحن سلة غذاء العالم. الآثار الأمنية:قلت في مقالات سابقة إن حدود السودان الشمالي مع الجنوب بعد الانفصال تبلغ حوالي 1037 كيلو متراً، وهي أقل من حدودنا مع الجارة تشاد، إذ تبلغ حوالي 1360 كيلو متراً، هل شكلت هذه ال 1360 كيلو متراً مع تشاد أي تهديد أمني للسودان في ذروة توتر العلاقات مع تشاد؟.لن يكون هناك تهديد أمني خطير على الشمال بعد الانفصال وذلك للأسباب التالية: 1/ عدة وعتاد وسلاح القوات المسلحة في الشمال وعدد أفرادها، ومستوى تأهيلهم في الأرضي والجو والبحر يفوق بكثير قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان. 2/ العمق الاستراتيجي للقوات في الشمال ملائم تماماً لدعم القوات وخطوط أمدادها، فهي أراضٍ سالكة سهلة الحركة والتحرك بعكس الجنوب، حيث تعيق الطبيعية والأمطار والجبال والمستقنعات حركة القوات. 3/ أي دعم ساخر خارجي سيقابله تماسك في الجهود الداخلية، ودعم خارجي من الدول المسلمة والعربية من دول لا تعرف الخوف، وتناصب الغرب وإسرائيل كل العداء مثل إيران وليبيا. 4/ القوات الاحتياطية الداعمة للقوات المسلحة في الشمال بالملايين، مدربة، ومسلحة، ومؤمنة بوطنها العربي المسلم، وهي جاهزة إضافة إلى عنصر مهم هو تماسك الجبهة الداخلية في الملمات الخطيرة، (نحن في الشدة بأس يتجلى). و(سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا زرعاً وقمحاً) ونرود المجد.عليه يمكن القول إلاَّ شئ يدعو لكل هذا التكالب على الوحدة ولكن تبقى نقطتان هامتان. الأولى مشكلة أببي يمكن تأجيل حسمها حتى ولو أدى ذلك إلى إشراف دولي على المنطقة، كمنطقة محايدة منزوعة السلاح حتى حلها ودياً دون التعجل.الثانية مشكلة دارفور يجب حلها بفكر ثاقب ونظرة مغايرة لكل ما مضى، تحت شعار بسيط لأهلنا في دارفور وقادتهم (ماذا تريدون نحن جاهزون) بأي حال من الأحوال لن يريدوا أكثر مما ناله الجنوب في اتفاقية السلام الشامل. سيكون سقف مطالبهم حكماً فدرالياً لدارفور الكبرى، في ظل السودان الواحد حكماً سياسياً وإدارياً على أرض دارفور الكبرى، يتمتعون فيها بثرواتهم وأرضهم في تعايش قبلي مثالي، سامي بقيم الإسلام العظيم، كما كان في السابق، ليتحقق ذلك يجب عليهم تغيير طاقم المفاوضين السابقين، كما يجب على المؤتمر الوطني التغيير الجذري الكامل في كل المفاوضين السابقين، ليأتي آخرون مؤمنون بضرورة حل قضية دارفور تحت شعار (ماذا تريدون نحن جاهزون). لا يمكن أن نحارب في كل الجبهات، ولا يمكن أن نواصل في هذه المفاوضات بالطاقم القديم تحت شعار (ماذا تريدون نحن متمترسون). والله الموفق وعليه التكلان. *مستشار