أنا من أشد الناس افتتاناً بالمعارك الفكرية.. من أكثر الناس ابتهاجاً بالسجال الكلامي من الذين يطربهم ويسعدهم ويبهجهم خوض المعارك الضارية والملاحم الأسطورية تلك التي اسلحتها المحابر والمداد وذخيرتها الكلمات والحروف.. ولأنه وحتى هناك اخلاق وأصول للحرب التي ينطلق فيها الرصاص الحي.. وتزمجر في فضائها البنادق والصواريخ والبنادق.. وتطير في أرض الوغى الأجساد والأشلاء حتى مثل هذه الحروب الحقيقية الوحشية المفزعة لها ضوابط وأخلاق وحواجز وأعراف.. فإن الذي يبهجني ويسعدني في خوض معارك الحروف أو حتى «الفرجة» الممتعة في تلك المعارك هي أن تكون ساحتها مجللة بالنظافة وحروفها منتقاة في رصانة وأناقة وكلماتها مكسوة بالأنيق من المفردات والعبارة.. وأن تخفق في فضائها أعلام وبيارق الاحترام.. وأن تكون أبواب الولوج لها عصية ومنيعة على الإسفاف والهتر والسباب والبذاءة والشتائم.. ممنوع في صرامة حديدية أن تتسرب إليها حروف تفيض قبحاً وبشاعة.. وهنا لازلت أتذكر بل أتلمظ في سعادة حروف معركة ضارية وطاحنة.. جرت أحداثها عبر صفحات الصحف بين محمود درويش وسميح القاسم.. كان ذلك في بداية ثمانينات القرن المنصرم.. وسميح يمطر درويش بوابل من طلقات ودانات الحروف والكلمات.. ودرويش يرد عليه بقنابل من التعابير الرصينة و البديعة.. والعجيب في الأمر أن معركتهما كانت حول محبوبة واحدة.. وصبية فريدة اسمها فلسطين.. كل منهما يعتقد في ثقة لا يخلخلها ظن ويقين لا يزعزعه شك أنه أكثر حباً من غريمه لحبيبتهما فلسطين لقد أمتعنا هذان الفارسان لمدى ستين يوماً وهما يتراشقان بالبديع من العبارات بالأنيق من الكلمات.. بالرصين من الأسلوب.. أغرقا كل الأمة العربية في نهر الدهشة.. وبحيرات من المتعة.. حتى طففنا نسأل الله أن لا تضع هذه الحرب أوزارها مطلقاً.. والآن يا أحبة.. إن كل الذي ورد أعلاه هو اجتياز فقط لدهليز.. واتكاءة فقط على مقاعد استقبال.. قبل الدخول دهشة وحباً إلى قلب موضوعنا أو «الفرجة» على معركة رائعة وبديعة.. ثم الخوض في أتون هذه المعركة ولكم أن تتساءلوا ما الذي جذبك انجذاب الفراشة إلى النور في هذه المعركة.. أقول.. إنها وحتى الآن معركة حروب أنيقة وساحة وغى نظيفة.. ومدفعية كلمات محترمة.. بدأ المعركة الصديق عبد العظيم صالح.. ورد عليه بكثافة نيران بكلمات هادرة الأستاذ عوض محمد الهدى ثم دخل إلى سا حة الوغى متسلحاً بالنظيف من سلاح الكلمات حبيبنا وصديقنا «زهدي».. واشتبك الجمعان بعد أن جمعتهما المجامع.. وللحقيقة ومن تلك المشاهدة وبرج المراقبة فقد بدأ المعركة الاستاذ عبد العظيم وهو يلتقط الذي «استفزته» أو «أغضبته» أو احزنته كلمات كتبها الصديق الأستاذ إسحق أحمد فضل الله الذي كتب مدافعاً عن «إخوانه» في الانقاذ كتب عبر صحيفته الانتباهة «اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض».. والاستاذ اسحق يعني أن ذهاب الانقاذ يعني ذهاباً للاسلام من السودان..! وإن بقاء الاسلام في الوطن رهين ببقاء الانقاذ حتى يرث الله الأرض ومن عليها وما عليها.. نعم اسعدتني المعركة.. فقط لأنها دارت رحاها في أناقة واحترام ونظافة.. ولأن الذي أوجع عبد العظيم هو ذات ما أوجعني.. والذي أحزن الأستاذ عبد العظيم هو نفس ما أحزنني.. لذا قررت أن أغادر صفوف «ترسو» المشاهدة ودخلت إلى خيمة استعدادي واستدعيت «حِرابي» وسننْت سِلاحي وتحزَّمت و «تلزَّمت» و «بريت» أقلامي وملأت بالمداد محابري ورفعت غطاء أقلامي.. وغداً تجدونني فارساً في ساحة الوغى..