كلنا يلبس«ثوب النبي»، لكن الحال مِنْ بعضو، فما حقيقة الأمر..؟!.. حقيقة الأمر، أنه في عهد سنار، تجاوز الوعي العام مفاهيم «الشياخة»، وسيطرة الزعيم القبلي، ليكون اختيار القيادة بشروط من نوع الكفاءة والحنكة والقوة الاقتصادية، وأطل عصر القائد الذي يسمو فوق انتمائه الضيق ليحقق مصالح مشتركة بين أطراف الكيان الكبير.. توفرت في شخصية عبدالله جمّاع مواصفات القائد المطلوب تاريخياً، فهو ذو بعد روحي في نسبه العباسي، أي هو«الإمام» بمفاهيم التقريش، و هو «الغريب الحكيم»،الذي يلبي حاجة العناصر المحلية إلى شخص متفرِّد، يفد من خارج الحدود، ويعلم الناس فنوناً جديدة في معافرة الحياة، أهمها اكسابهم مهارات الاستفادة من موارد البيئة في تطييب الغذاء.. ثم يُكمل جمّاع بقية السيناريو التاريخي، فيتزوج ابنة ملك الجحمان، ليؤول إليه الُملك بالمصاهرة، حيث أن المُلك عند شعوب السودان القديمة ، ينتقل الى حفدة الملك من بناته.. بذلك يغدو جمّاع زعيماً في وسط السودان تتحقق به أحلام السيطرة العربية بالقضاء على نفوذ«العنج».. وفي مقابل نسب العبدلاب الصريح للعباسيين، يرفع الفونج راية نسبهم إلى بني أمية.. وهنا تتضارب الأقوال، بعض الروايات تقول إن منشأ الفونج في «لول»، وان ديارهم حلت فيها البركة بمجيء «الغريب الحكيم».. ويصف كاتب الشونة نشأة ملكهم على أثر طراد وراء ثور هائج دخل غابة كانت تسكنها جارية تدعى سنار، ورواية أخرى تنسب الفونج إلى البدو السود..و الثابت تاريخياً أن إدعاء الفونج النسبة إلى بني أمية،جاء معادلاً لنسب العبدلاب العباسي، بالتالي وفَّرَ لهم غطاءً روحياً يؤهلهم للقيادة في مجتمع يؤمن بالدلالات الدينية والاجتماعية للعرق..ومهما يكن، فان «تحزُّب» العبدلاب والفونج، بين بني العباس وبني أمية، يعني تمثُل الأجيال المهاجرة لمواقف الأسلاف، فتلك المواقف ظلت حية بالمشافهة جيلاً بعد جيل.. وتحالف، هذه جذوره،لابد أن يلتهب، لابد أن يشب فيه الصراع،، الصراع الذي يلتهم أولاً ذلك الولاء القديم للعِرق..! لقد تحالف العبدلاب والفونج على قواعد قبلية عِرقية، تستحضر الصراع الأموي العباسي.. وفي الاستحضار لتلك الحالة التاريخية الماضوية، يترصد الطرفان طائر الامتيازالروحي والعِرقي، أي الانتساب إلى قريش، شأنهم في ذلك شأن كل قبيلة في السودان، حيث يقول نعوم شقير، إنه «ما من قبيلة في السودان إلا ادعت لنفسها نسباً متصلاً بآل البيت».!! و غض النظر عن صحة الادعاء، فأن هذا الحال، ينم عن استعداد نفسي واجتماعي لتجاوز العِرقية والجهوية، بمعنى آخر، أن كل قبيلة سودانية كانت تحتضن في ذلك الولاء الديني جرثومة فناء النعرة القبلية، فكأن الانتماء الديني هو القاعدة المشتركة التي تتوحد عندها مشارب القبائل التي تذاوبت رابطة الدم فيها بالاختلاط. ويمكن رصد تنامي الولاء العقدي على حساب الولاء العِرقي منذ بدايات السلطنة الزرقاء، إذ هو ظاهرة طاغية ، رصدها الرحالة اليهودي «روبيني» حين زار بلاط سنار في حوالي (2251-3251)م.. وهو الآخر أي روبيني نفسه ادعى الانتساب لآل البيت كي يجد الرعاية والحظوة في البلاط السِّنّاري.. إن تحالف الفونج والعبدلاب، أو بالأحرى تصالح الأمويين والعباسيين في السلطنة الزرقاء، كان فعلاً تاريخياً، يحتوي على ايدلوجيا مضمرة، فيها مافيها من تمجيد العرق والعقيدة ، وفيها اشارة قاطعة إلى تفكك أوصال التنظيم القبلي بقيام سُلطة، تمتد من فازوغلي حتى دنقلا، ومن البحر الأحمر حتى النيل الأبيض.. وما كان لتلك السُلطة السلطنة أن تُرخي ظلالها على المزاج القبلي في ذلك الحيِّز الجغرافي المتسع، لولا مذهب التصوف الذي استعربت وتأسلمت به الكيانات والأفراد، وعلى هداه نشأت الممالك على أمجاد قبلية ومسيحية سالفة.. انظر يا عزيزي، كيف كنا ، وكيف نحن الآن..!!