٭ حدث الاسبوع الماضي الأبرز، كان هو قرار السودان الصادر من لدن وزارة الخارجية بإغلاق المركز الثقافي الإيراني وفروعه وفعالياته الاحتفالية والاجتماعية (الحسينينات).. ٭ القرار انطوى على قدر من المفاجأة للمراقبين.. ذلك أنه لم يكن ثم مؤشرات دالة على تراجع العلاقات بين البلدين أو تدهورها.. بل كان كل شيء يسير كالمعتاد.. بما في ذلك زيارات قطع الاسطول الإيراني لميناء بورتسودان والترحيب الذي تلقاه، بما في ذلك زيارات المسؤولين العسكريين والمواطنين لرجال البحرية الإيرانية واكرامهم وملاطفتهم. ٭ الراجح لدى معظم المراقبين الذين تابعوا الحدث واصداءه هو أن القرار جاء استجابة لتقديرات «مصلحية» بحتة.. بفعل الحصار الاقتصادي.. والمصرفي منه على وجه الخصوص.. الذي بدأ يضيِّق الخناق على السودان، ما ينبيء بأنه سينتهي إلى أزمة بل كارثة اقتصادية.. إذ ستعجز الإدارة المالية السودانية عن تلبية أبسط متطلبات «الاستيراد» الذي تعتمد عليه الدولة في انتاج السلع الضرورية لتسيير الحياة.. صناعة الدواء أو الصناعات الأخرى المعتمدة على الخامات المستوردة في غالبها أو الزراعة المعتمدة على واردات الآليات والمدخلات الضرورية للانبات والوقاية، كما أشار إلى ذلك الاستاذ يسن حسن بشير في تحليل اقتصادي مخدوم بجريدة التيار أمس الأول (السبت). ٭ وبمنطق «المصالح» هذا، وبرغم ما يجمع بين النظامين في السودان وايران من آيديولوجيا «الاسلام السياسي»، بصيغته «السنية» هنا وصيغته «الشيعية» هناك.. فإن نظام «الانقاذ» السوداني- وبعد تجربة طويلة- قد خاب رجاؤه في إيران كسند اقتصادي فاعل في مواجهة أزماته الاقتصادية المتلاحقة.. إذ اقتصر العون الايراني- غالباً- على مجالات عسكرية لحسابات تخصها هي، ربما أكثر مما تخص السودان.. كما أن التعاون مع ايران.. وهي بدورها موضوعاً للمقاطعة الاقتصادية الأمريكية والغربية.. يُبطيء من محاولات السودان الدؤوبة لرفع المقاطعة عنه.. فالتعاون والعلاقة المتينة مع إيران تجعل السودان موضع غضب وشكوك دولياً، وأهم من ذلك اقليمياً في دول المحيط العربي.. التي تعتورها المخاوف من التمدد الايراني في المنطقة العربية.. من العراق إلى شرق الجزيرة العربية ودول الخليج وجنوبها حتى اليمن عبر الحوثيين وشمالها في لبنان وسوريا.. فحرية حركة الاساطيل الايرانية في البحر الأحمر- غرب الجزيرة العربية- تعني أن ذراع ايران الطويلة تحاصر العرب وجزيرتهم من الجهات الأربع.. هذا وحده كفيل بإثارة المشاعر السلبية- إن لم يكن الغضب- على السودان ويدفع متخذي القرار في تلك الدول إلى التفكير أكثر من مرة قبل اتخاذ أي قرار يساعد السودان أو يكون لصالح انتشاله من أزماته الاقتصادية المتلاحقة.. وهذا ما ألمح اليه وزير الخارجية علي كرتي في أكثر من مناسبة وأمام البرلمان أيضاً. ٭ ما هالني حقاً، هو ردود الفعل الداخلية، من رجال الدين وائمة المساجد على وجه الخصوص.. فهم اعتبروا «المسألة» برمتها مسألة صراع طائفي بين «السنة» و«الشيعة»، وان الهدف الأساسي لانشاء ايران لمراكز أو «مستشارية ثقافية» في السودان هو التبشير بالمذهب الشيعي واخراج الناس من مذاهبهم السنية وعقائدهم الصوفية ليصبحوا من اتباع المذهب أو المذاهب الشيعية.. وهذا في نظري تقدير خاطيء.. فإيران وحكومتها ليست بهذه السذاجة حتى تعتقد أن بمقدورها تحويل بلاد بحجم السودان إلى المذهب الشيعي.. بلاد ترسخ فيها الاسلام بمذاهبه السنية وطرقه الصوفية، شعبياً ورسمياً، عبر مئات السنين.. فما يهم إيران هو اجتذاب النظام السياسي الحاكم في الخرطوم و «مشروعه الحضاري الاسلامي» إلى دائرة نفوذها الإقليمي في مواجهة دول الأقليم الأخرى.. فجهود ايران «الثقافية» ما هي إلا محاولة ل«تطبيع» العلاقات المذهبية بين السنة والشيعة حتى لا تثير حساسية السودانيين.. ٭ الخطب الحماسية التي تبارى ائمة مساجد الخرطوم في الإدلاء بها من على المنابر الجمعة الماضي، صورت لجمهور المصلين أن «الاسلام الصحيح» في خطر، وأن ايران والشيعة «الرافضة» في طريقهم للانحراف بعقيدة الأمة.. وهي صورة بعيدة عن الواقع.. الذي يقول بأن مسلمي السودان على درجة من الوعي الديني والتقوى المسلكية التعبدية بما لا يسمح لأي كان- ايران أو غيرها- من تحويلهم أو حرفهم عن الجادة التي نشأوا وشبوا عليها، وان «القلة القليلة جداً» التي أبدت تعاطفاً حيياً مع المذهب الشيعي فعلت ذلك لمصالح ذاتية ووقتية.. من قبيل المكافأة المادية المبذولة أو التسهيلات التجارية أو البعثات التعليمية أو ما إلى ذلك من رغائب الدنيا الزائلة. ٭ قرار الدولة والخارجية بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية قد يغضب إيران ومراجع «ولاية الفقيه» فيها خصوصاً، لأنه يمس أحد أهم رأسمالها السياسي، ولكنه- كما اقدر- لن يدفع إيران «الدولة» لخسارة السودان.. وسوف تعمل لتفادي أية ردود فعل سلبية على علاقات البلدين، لتبقى على الأقل على «شعرة عدوهم التاريخي معاوية» تحسباً لمعاركها التي لا تنقضي مع محيطها الاقليمي والدولي.