أثناء زيارة السيد الصادق المهدي للقاهرة رئيس للوزارة في الديمقراطية الثالثة (1986-1989) وفي لقاء مع اللجنة المصرية للتضامن مع الشعوب الأفريقية والآسيوية في 21/8/1987 ألقى كلمة صدرت في كتيب بعنوان (التحديات التي تواجه الديمقراطية في السودان) جاء في كلمته التي ألقاها. هنالك أيضاً الدولية، فنحن نعيش في عالم لم يعد فيه الناس يتركون يمارسون حياتهم كما يشاءون أو كما يحلو لهم أن يتصوروا، وهذا يعني أنهم يفرضون ضوابط وقوانين دولية لحركة الأخرين بمصالحهم وتصوراتهم وظروف حروهم ومواجهاتهم الكونية، وهذا يمثل عبئاً ثقيلاً. ويمضي السيد الصادق في كلمته محذراً مما أسماه الرعي مع الفيل مجازاً للتعامل مع القوى الكبرى يقول : (بل نعتبره خطراً أن نحاول أن نمشي مع الفيل يداً بيد، فهو إن مشينا معه يداً بيد وقعنا إما في الحفر التي يحفرها بأقدامه بأذى من الأذى الذي قد يصيبنا بسبب القرب من أعضائه وأجزائه الخطيرة المحسوبة حركاتها على أساس ومنطق مختلف عن حركاتنا وتحركنا ومشينا. وعن التمرد الذي كان سائداً وقتها بقيادة قرنق (الحركة الشعبية لتحرير السودان) والذي فشل في التعامل معه والوصول إلى نوع من التفاهم كرئيس للوزارة لحكومة لم يعترف بها قرنق ودعا لاسقاطها. جاء في كلمة السيد الصادق: (إن التمرد ما كان له أن يحقق ما حققه أولاً البعد الخارجي الذي أعطاه منذ البداية إمكانات واسعة مالية، عسكرية، تدريبية، دبلوماسية، تخطيطية، إعلامية، سمى ما شئت، يسروا له كل هذا العوامل، ولذلك ولأول مرة كان البعد الاستراتيجي عامل كبير في مسألة التمرد في السودان. وضمن محاولات حركة قرنق المتواصلة لإرباك الحكومة القائمة (حكومة الصادق والميرغني) كان التباحث مع مفاوضين أخرين غيرها ومن وراء ظهرها مهما كان وزنهم أو تأثيرهم على الساحة السياسية فدعت سراً بعض صغار الأساتذة ا لجامعيين والأكاديميين ونفراً من المثقفين المغمورين للقائها في مدينة أمبو باثيوبيا، كل الأتعاب مدفوعة من قبل الجهات التي وراء التحرك. المتأمرون كما وصفتهم الحكومة من السودان عبر القاهرة وروما، وعندما أكتشف الأمر كان رد فعل الحكومة فورياً وغاضباً إذ صدرت إدانة رسمية للمتآمرين الخونة للقائهم بجماعة متمردة مسلحة تحارب الوطن وتم إعتقال وألئك النفر عند رجوعهم للخرطوم بأمر من وزير الداخلية السيد مبارك المهدي والذي صب جام غضبه عليهم في جلسة للبرلمان معلناً أوامره بمحاكمتهم بتهمة الخيانة العظمى. ثم تتقلب الآية ويقوم مبارك المهدي نفسه بعد أربعة أشهر من ذلك الحدث وهو في المعارضة بتوقيع ميثاق تحالف باسم حزب الأمة مع حركة قرنق في اكتوبر 1989م وهو تحالف أكثر خطورة من المحادثات على كوب شاي التي جرت بين أولئك النفر وحركة التمرد، إذ أن ميثاقه الموقع نيابة عن حزب الأمة وبيت المهدي يدعو المليشيات التي تحارب المتمردين في دارفور (معقل أنصار حزب الأمة) إلى توجيه بنادقهم لا إلى صدور المتمردين بل إلى الجيش السوداني. وفي كتيب بعنوان السودان الحديث أصدرته وزارة الخارجية ا لسودانية في أبريل 1987م في حكومة الحزبين برئاسة الوزراء والدفاع لحزب الأمة في شخصي السيد الصادق المهدي ورئاسة الدولة (السيد أحمد الميرغني) والخارجية للاتحاد الديمقراطي جاء عن حركة التمرد. إن حركة التمرد الحالية التي تعرض بعض أجزاء جنوب الوطن للخراب وحياة بعض السكان الأبرياء للخطر تدرك تماماً توجهات الحكومة السلمية إلا أنها رغم ذلك قد اختارت عدم الاستجابة لهذا الاتجاه واختارت تصعيد نشاطها الإرهابي الموجه من المدنيين والعزل من الشيوخ والأطفال وعلى حركة التمرد أن تضع في حساباتها استحالة تحقيق حلمها في حكم البلاد أو فصل الاقليم الجنوبي كما عليها أن تدرك الحقائق التالية: أ/ إنها النظام الديمقراطي الشرعي خدمة لمصالح المغامرين في صفوفها والجهات الأجنبية التي تساعدها وتقف من ورائها. ب/ إنها الحليف المخلص للذين يساندون وينادون بالفصل العرقي والديني بين أبناء الوطن وعليه فهي عنصر شتات وتفرقة وليست عنصر وحدة. ج/ إنها المسؤولية عن قتل الأبرياء من المواطنين وإعاقة التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد. د/ إن إرهابية هذه الحركة لم تعد محتاجة منا لبرهان فأعمالها وبياناتها تؤكد ذلك كما تؤكده إفتقارها لحرية القرار لهيمنة أجنبية تسخرها لأغراضها ومصالحها.. وقد إتضح أن التوصل إلى إتفاق مع حركة التمرد ممكن إذا لم تفرض عليها الأوامر من جهات تريد الإبقاء عليها شوكة في جانب السودان وعقبة أمام تقدمه وإستقراره، حيث تقدم للحركة استضافة في أراضيها، التسهيل لتجنيد قواتها، فتح التسلح أمامها، وعليه يدرك الذين يحملون السلاح أنهم يحاربون حرباً لا مصلحة لهم فيها وعليهم أن يحرروا أنفسهم من قبضة الذين يقودونها، وعلى حركة التمرد أن تدرك الآن وقبل فوات الأوان المأزق وحالة اليأس التي تحيط بها محاربة نظام ديمقارطي يرحب بالمفاوضات السلمية لحل الخلافات بين أبناء الوطن. ومع تمرد آخر في نسخة جديدة أسمه الجبهة الثورية تلعب نفس دور التمرد الأول الذي نبذه السيد الصادق وقال فيه ما لم يقله مالك في الخمر.. يتنصل السيد الصادق وحزبه من كل ما قاله وسجله له التاريخ من خطورة الرعي مع الفيل وخطورة التعامل بالسلاح لحل قضايا الوطن. في البند (ب) أعلاه إتهم كتيب وزارة خارجية حكومة ا لصادق حركة التمرد وقتها بأنها الحليف المخلص للذين يساندوه وينادون بالفصل العرقي والديني بين أبناءه الوطن وعليه وعليه فهي عنصر شتات وتفرقة وليست عنصر وحدة، وعلى نفس المسار سار ما وصف بالقيادي بحزب الأمة نجيب الخير عن النهج الذي كان قد أدانه فيه مواقفه السابقة من كل الاتفاقيات التي تدعو بصون حقوق المواطن المتساوية واحترام التعدد والتنوع لأهل السودان. وبذلك أصبح توجه حزب الأمة يتطابق مع موقف الجبهة الثورية التي تنادى بذلك بالفعل وخلق سودان مشوه لا ثوابت له ولا قاعدة متينة يرتكز عليها، وأصبحت الحليف المخلص للذين يساندون وينادون للفصل العرقي والديني بين أبناء الوطن.. وعليه فهي عنصر شتات وتفرقة إنها بذلك حركة مستحدثة لمفاهيم قديمة يحملون نفس الراية في مواصلة طمس هوية السودان، ومع التمرد الآخر في نسخة باسم الجهة الثورية، يتنصل السيد الصادق وحزبه من كل ما قاله وتخوف منه وسجله له التاريخ من خطورة الرعي مع الفيل. كما سوق السيد الصادق لحركة قرنق وإعترافه بأنه أوصلها للتعامل مع أطراف عربية بأن أعطاها شرعية كانت تفتقرها، إذ كانت مجرد حركة تمرد فإذا به بإنضمام حزبه اليها وإعتراف دول بها نتيجة اتصالاته جعلها فصيلاً من فصائل المعارضة الشرعية.. وفي النسخة الجديدة وكما جاء في الصحف وأنا أنقل ما جاء بالحرف أكد حزب الأمة القومي أن رئيس الحزب الإمام الصادق مستمر في تسويق إعلان باريس وهاجم القيادي ا لحزب السفير نجيب الخير رئيسة القطاع الفئوي بالمؤتمر الوطني سامية أحمد محمد بوصفها إعلان باريس بأنه تجمع للمتمردين، وأضاف أن الصادق المهدي يعمل لربط إعلان باريس بالمعطيات الإقليمية والدولية من أجل إقرار سلام شامل في السودان لأن السباحة ضد التيار الدولي لا تخدم عملية السلام والاستقرار في المنطقة ونفى وجود خلاف بين قيادات الجبهة الثورية بشأن التعاون مع المهدي وسخر من إتهامه بالفشل في تسويق الإتفاق مؤكداً أن الجبهة الثورية والأمة على توافق تام حول أهداف الإعلان وآليات تنفيذه ووصف ما يثار في ذات الصدد بالحديث المفبرك والمضحك. يبدو أن ا لسيد الصادق وجد أن الرعي مع الفيل رغم مخاطر المشي معه تتيح له ذلك من أجل إقرار سلام شامل في السودان لأن السباحة ضد التيار الدولي لا تخدم عملية السلام والاستقرار في المنطقة، ويبدو أنه تغاضى الطرف عن ما حذر منه من مخاطر الرعي مع الفيل والتي قال عنها إن مشينا معه يداً بيد وقعنا إما في الحفر التي يحفرها بأقدامه أو يأذى قد يصيبنا بسبب القرب في أعضائه وأجزائه الخطيرة والكبيرة المحسوبة حركاتها على أساس ومنطق مختلف عن حركتنا وتحركنا ومشينا.. فهل فوائد المشي مع الفيل ما قد ينالنا من مخاطر المشي معه ورغم إدراكه أن حركات الفيل محسوبة على أساس ومنطق مختلف عن حركاتنا وتحركنا ومشينا، بمعنى أن النتيجة قطعاً لن تكون في صالحنا.. بل في صالحه هو، وإن المصلحتين لن يتطابقا ويكفي ما نراه فيما يحاك لدول الربيع العربي وما وصل إليه الأمر فيها من التدخل الخفي بقوى خارجية ترعى مصالحها واستراتيجياتها. إن كان السيد الصادق قصد من تحركه جمع الصف بدعوة الجبهة الثورية للقاء مع الداخل لكان موقفاً محموداً، لكنه كما جاء في الصحف أنه أوصد ا لباب مع الخرطوم عندما نعى الحوار ا لوطني وقال عقب إبرامه إتفاق باريس دفناهو في مقابر أحمد شرفي هل هذا نتاج الرعي مع الفيل؟. ü سفير سابق