٭ في زيارة أخيرة لمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، بصحبة الصديقين الشاعرين، السفير محمد المكي إبراهيم وكمال الجزولي المحامي.. لاحياء ليلة يتحدث فيها «ود المكي» ضمن ليالي «مهرجان الكتاب» عن من هو وعن شعره.. أهداني الأخ كمال عبد الكريم مدير المركز إحدى اصداراتهم الأخيرة.. رواية تحمل عنوانين «حارة المغنى.. و.. ولّى المسا» للسيدة الدكتورة ليلى أبو العلا المقيمة بلندن.. الرواية صدرت بالانجليزية ونقلها إلى العربية المترجم القدير د. بدر الدين الهاشمي.. وشاركه في مراجعتها لجنة من الأدباء والكُتاب بينهم صديقنا السفير جمال محمد إبراهيم. ٭ لم تكن تلك المرة الأولى التي أقرأ فيها لليلى أبو العلا، فقد اطلعتُ لها من قبل على روايتها «المُترجِمة» التي عرَّبها باقتدار- كما هو دأبه- صديقنا الراحل الخاتم عدلان رحمه الله، ونالت استحساني لتماسها المباشر مع قضايا السودان واستفادتها الواضحة من تجربة «الطيب صالح» في «أدب المهجر السوداني» بما في ذلك قطف بعض النصوص من «موسم الهجرة إلى الشمال» يتحدث فيها عن النخلة التي جعلته يشعر بأنه ليس «ريشة في مهب ولكنه مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل، وله جذور، وله هدف».. وقد نالت تلك الرواية ذات البعد الاجتماعي الحساس المتعلق بالمرأة في آسيا والعالم الثالث وتُعلي من لغة الحب وتحرض عليه جائزة «الاميركان بوكر».. وعلمت من السفير جمال أن الرواية الجديدة لليلى «ولى المسا» قد حازت أيضاً على الجائزة الأولى في معرض الكتاب الاسكتدلندي (Scotish Book- Fair)، ولفت جمال نظري إلى أن السيدة ليلى متخصصة في «علوم الإحصاء»، وليس الآداب.. فلم يمنعها التخصص ذو «الأرقام الباردة» من إنتاج روايات يصطرع فيها جيشهان العواطف الحارة والمتفجرة. ٭ حارة المغني.. أو.. ولّى المسا جاءت- في نصها المترجم- في (984) صفحة من القطع فوق المتوسط، وحملت في صفحتها الأولى صورة للشاعر الراحل- موضوع الرواية- حسن عوض أبو العلا صورة فوتوغرافية له وهو لا يزال في ريعان الشباب ببدلة داكنة وقميص أبيض وربطة عنق انيقة، بدا أنها اخذت له قبل أن تحل به الحادثة- المصيبة التي أقعدته حتى رحل إلى الدار الآخرة، رحمه الله.. والرواية كما نوه مترجمها «الهاشمي» قد خرجت من قبل من الانجليزية إلى عدة لغات أجنبية.. لكن من المؤكد إنها لن تكون بحال في روعة النص العربي- السوداني، حيث «أصل الحكاية» ودفق المشاعر التي شكلتها ابتداءً، فذهبت لتحكي للآخرين «ما كان» قبل أن تعود إلى الجذور وتقول لمن يهمهم الأمر ولمن يستمعون لأحمد المصطفى وسيد خليفة، كيف كان السفر الذي سبب الأذى وكيف ولى المسا في «وطن النجوم». ٭ وطن النجوم الذي تمنيت لو اختارته ليلى أبو العلا عنواناً لروايتها عوضاً عن «حارة المغنى».. وكنت قد قلت ل«جمال» في تلك المكالمة.. شاعرنا حسن عوض أبو العلا، لم يكن يسْكن في حارة أو زقاق كما نجيب محفوظ، أو في العيلفون كما الجاغريو، أو في «ود البنا» كما محمد عمر البنا، أو في «حي العرب» كما عبد الرحمن الريح وابراهيم عوض.. بل كان يسكن في «سرايا»، قصر منيف مفصول عما حوله في كل الاتجاهات ومطل على ميدان فسيح هو «حوش الخليفة».. وشكل، بمساحته المهولة وحوشه الواسع، للشاعر المصاب مقراً ومرقداً دائماً يراقب ويرصد منه ساهراً ومسهداً ومتأملاً حركة النجوم في سماء أم درمان المفتوح كل ليلة.. فاستحقت الرواية عندي عنواناً ك«وطن النجوم» تعبيراً عن حال الشاعر وعلاقته الدائمة بالسماء والمساء، علاقة انتجت هذا «المغنى» البديع، الذي لم يخرج من «حارة» أو «زقاق».. تلك السرايا اشتراها أخيراً الصادق المهدي وحولها إلى مقر مؤقت لحزب الأمة القومي على شارع الموردة. ٭ أهدت ليلى روايتها إلى والدها الراحل فؤاد مصطفى أبو العلا (8291- 8002) ولذكرى ابن عمه الشاعر حسن عوض أبو العلا (2291- 2691)، وأكدت في تقديمها للرواية، انه على الرغم من أن حياة عمها الشاعر هي التي الهمتها كتابة هذه الرواية، إلا أنها حوّرت فيها جوانب كثيرة تتصل بتاريخ العائلة- عائلة أبو العلا- كما ادخلت عليها ايضاً الكثير من الشخصيات المُتخيلة، حتى يغدو العمل روائياً ومُتخيلاً، وليس رصداً وتسجيلاً وتوثيقاً لحياة الشاعر.. وهذا تدبير واحتراز يعفيها، بالطبع، من الكثير من الحرج والمساءلة.. لكن الكاتبة تقر من جانب آخر بأن مادة الرواية «الخام» مستقاة من حكايات أفراد الأسرة الذين عايشوا الشاعر وتأثروا بما جرى له، ومنهم عمتها «رحمة» شقيقة حسن، التي كانت تتمتع بذاكرة حافظة لابد أن مشاعرها تجاه شقيقها المصاب والمقعد قد زادتها قوة ورسوخاً وديمومة.. كما تقر بمساعدة آخرين من خارج الأسرة في تفهُمٍ أعمق لمعاني شعر حسن أبو العلا ومكانته بين شعراء الأغنية السودانية.. و يبدو أنها كانت ايضاً في حاجة لمساعدة بعض السيدات للوقوف على بعض العادات السودانية «كرقصة العروس» والطقوس المصاحبة لها في الزواج والطهارة والمناسبات ذات الصبغة المحلية، كما كانت في حاجة للإلمام بالاجواء المصرية في خمسينيات القرن الماضي التي شهدت بعض احداث الرواية، التي كانت في الأصل سجالاً بين مصر والسودان.. «السودان الانجليزي- المصري» حينذاك: «فيك يا مصر أسباب أذايا.. وفي السودان همي وعزايا».. ٭ في هذا سمعتُ صديقنا الراحل «يوسف أبو بكر النقيب» الشهير ب«جوزيف»- رحمه الله- وهو الذي امضى دهراً من عمره في القاهرة يروي كيف أن بعض معارفه من المصريين، كان يستنكر هذا البيت من الغناء السوداني عندما يبث من على «ركن السودان» ولا يفهمون لماذا هكذا يغني أحمد المصطفى عن مصر، معتقدين انه من قبيل اللوم أو التقريع، ويتساءلون من منطلق «الوطنية المصرية» الجارفة: «هو ليه الجدع ده بقول فيك يا مصر أسباب اذاي.. مصر عملتله إيه»؟! نواصل