كان مدخلنا نحو شرق الله البارد، من ناحية الجنوب الشرقي لرفاعة.. شجيرات الكِتِر داكنة الخُضرة تتناثر فوق بسطة العُشب التي تكسو الأُفق، وعلى مد البصر ترتع المواشي بأنواعها وأسراب الطيور.. أرى بينها طائر السِمْبر، وفي الآفاق طير كثير، (يَقرْقِرْ فوق، صِقير، وحِديّ).. من البعيد يظهر لنا جبل (الأبايتور).. قيل أنّه سُمِي هكذا بلُغة الفونج، الذين بينهم وبين الشُكرية عهد مكتوب منذ القِدَم.. ويقولون إنّ اسمه جاء من هيئته الفخيمة لأنه جبل ضخم لا يتزحزح من مكانه (أبَى يَتُرْ)..! البيئة حول جبل الأبايتور، تشبه الى حد كبير بيئة الصعيد في نواحي الروصيرص، على جانبيه مسارب الوادي التي يسكنها القطا والحُبار، والبعاشيم، بنت أُم ساق،، والسحالي وأشباهها من الزواحف التي تسكن حجارة الجبل، حيث النار تخرج من ألسنة الثعابين..! لا فقر ولا أسعار، ولا أسمدة ولا تصريحات، في هذه الناحية من السودان، من تراهم يلبسون (عراريق) الرُعاة، عندهم فيك ألف رأي ورأي..! يقولون إن (العَشير بطران) بين أهل البُطانة، وأي بطر أكثر من مرافقة صديقاي، أحمد صديق، وصديق فضل المولي الذي فارقته قبل ثلاثين عاماً، وعندما التقيته كأني فارقته بالأمس.. في البطانة ، تزدحم الخضرة ويتكاثف النّال ونبات البراري..البِلداتْ خصيبة، وروائح الريحان مثل كَبريت العروس، والبَهَمْ من بِعْرَان وجَدْيّ ، وحواشي، يلعب (أُمْ قِفيّ).. شرق الله البارد ،(إنْكالْ بالجَمالْ لامِنْ دَفْقْ مَاعُونو)..! هذا القول مأخوذ من (ود شوراني)، حيث لا وصف يليق بجمال بادية البُطانة، إلا باستلاف ما جادت به قريحة شعرائها.. كل شيء جميل في البُطانة، حتى طشيش شبكة الاتصالات، حتى انقطاعك عن العالم والمبيت في العراء.. من أين نبدأ الحديث عن جنّة (العَشير) الساحرة، التي يتبدد فيها الوقت كما يتبدد كما يتبدد الماء من راحة اليد..!؟ مروج الريحان العَطِر على مد البصر، والأرض الرملية خضراء منبسطة، تشرب من(التُّعُولْ) الدّاكنة التي لا تخيب..التُّعُولْ هي السُحُبْ، قال شاعرهم: (ضُهْرِيكْ أي أون الظُهر سَابَقْ السّارية وصَبِيو إنْحتَّ / وبَرْقِكْ سَاوَقْ أُمْ برَدْ البِيَرْمِّي صَقْتّا / سُحُبِكْ دُودَا من الدوداي أي الصِيّاح فوقْ عّلاوْ ضِهورِكْ خَتَّ / جَبّاْلِكْ جَبَدْ كُجُرْ التُّعُولْ وإتْغَتَّ الجِبال تغطّت بلفائف السُحُب الداكنة)..! عاش عبد الله حمد ود شوراني المرغومابي ، فوق أرض البُطانة، ورحل عن هذه الفانية في الثمانينيات، وله مسادير كثيرة في العشق ، وفي النجوم .. (في الجَمال والجُمال).. في هذا المُربع، يرسم ملامح عِينة الخريف في بادية البطانة، مقروناً بشوقه القديم ، ويقول : «غابْ نجْم النَطِحْ ، والحَرْ علينا إشْتِدّ .. ضَيّقْنا وقِصِرْ لَيلُو، ونِهارو امْتَدَّ .. نَظيرة المِنّو للقانونْ بِقيتْ أتْحَدّى .. فتَحَتْ عِنْدِي مَنِطقة الغُنَا الإنْسَدّ» ..!