شرق الله البارد ، "إنْكالْ بالجَمالْ لامِنْ دَفْقْ مَاعُونو"..! هذا القول مأخوذ من "ود شوراني" ، حيث لا وصف يليق بجمال بادية البُطانة ، ألا باستلاف ما جادت به قريحة شعراؤها.. كل شيئ جميل فى البُطانة، حتى طشيش شبكة الاتصالات ، حتى انقطاعك عن العالم والمبيت فى العراء. فمن أين نبدأ الحديث عن جنّة " العَشير" الساحرة، التى يتبدد فيها الوقت كما يتبدد كما يتبدد الماء من راحة اليد..!؟ مروج الريحان العَطِر على مد البصر، والأرض الرملية خضراء منبسطة ، تشرب من" التُّعُولْ" الدّاكنة التى لا تخيب..التُّعُولْ هي السُحُبْ، قال شاعرهم: "ضُهْرِيكْ أي أون الظُهر سَابَقْ السّارية وصَبِيو إنْحتَّ / وبَرْقِكْ سَاوَقْ أُمْ برَدْ البِيَرْمِّي صَقْتّا / سُحُبِكْ دُودَا من الدوداي أي الصِيّاح فوقْ عّلاوْ ضِهورِكْ خَتَّ / جَبّاْلِكْ جَبَدْ كُجُرْ التُّعُولْ وإتْغَتَّ الجِبال تغطّت بلفائف السُحُب الداكنة."..! "العَشير بطران" بين أهل البُطانة ، وأي بطر أكثر من مرافقة صديقاي ، أحمد صديق، وصديق فضل المولي الذي فارقته قبل ثلاثون عاماً، وعندما التقيته كأني فارقته بالأمس..! كان مدخلنا نحو شرق الله البارد، من ناحية الجنوب الشرقي لرفاعة..شجيرات الكِتِر داكنة الخُضرة تتناثر فوق بسطة العُشب التى تكسو الأُفق، وعلى مد البصر ترتع المواشي بانواعها و أسراب الطيور..ارى بينها طائر السِمْبر، وفى الآفاق طير كثير، " يَقرْقِرْ فوق ، صِقير، وحِديّ".. و من بعيد يظهر لنا جبل "الأبايتور"..قيل أنّه سُمِي هكذا بلُغة الفونج، الذين بينهم وبين الشُكرية عهد مكتوب منذ القِدَم.. ويقولون أنّ اسمه جاء من هيئته الفخيمة لأنه جبل ضخم لا يتزحزح من مكانه " أبَى يَتُرْ"..! البيئة حول جبل الأبايتور ، تشبه الى حد كبير بيئة الصعيد فى نواحي الروصيرص، على جانبيه مسارب الوادي التى يسكنها القطا والحُبار، والبعاشيم، بنت أُم ساق،، والسحالي وأشباهها من الزواحف التى تسكن حجارة الجبل، حيث النار تخرج من ألسنة الثعابين..! تزدحم الخضرة ويتكاثف النّال ونبات البراري ، والبِلداتْ فى منتصف سبتمبر بعضها "لبَّنْ " وبعضها "عيشها شراية"..البَهَمْ من بِعْرَان و جَدْيّ ، وحواشي ، يلعب " أُم قِفيّ".. لا فقر ولا أسعار ، ولا أسمدة ولا تصريحات ، فى هذه الناحية من السودان، من تراهم يلبسون "عراريق" الرُعاة ، عندهم فيك ألف رأي ورأي..! فى هذا المكان ، يغدو اللبن بديلاً للماء ، والشواء بديلاً الخبز ، والدوباي بديلاً عن الصحف الورقية والقنوات الفضائية..! أشبال "العفصة "، أحد بطون قبيلة الشكرية ، يسرحون فى البراح ، فلا تكاد تسمع نجواهم حين يتحدثون ، لكن ما أن تبدأ عرضة "الصّقرية"، حتى يتحوّل الواحد فيهم الى تور الخلا الهجّام ، أو صقر الجو نزل فى الدارة، أو جبل الهكعة..! مع الصقرية ، تتوقّد عيون " البُطان"، ويتلاعبون بالسيف فى وجوه بعضهم البعض، كأنه عصا الكمان فى يد "محمدية"..! يستبقون بالصُهُب كأنهم فى شوق الى الحرب .. هؤلاء ،إن لم يتدفأوا بنارها تلاعبوا بأدواتها..! يوحون إليك بأن لا خوف على حدود السودان من هذا الثغر الجغرافي..! الشاعر عبد الله حمد ود شوراني، المرغومابي ، الذي عاش فوق أرض البُطانة ، ورحل عن هذه الفانية فى الثمانينيات، له مسادير كثيرة فى العشق ، وفى النجوم .. "فى الجَمال والجُمال".. فى هذا المُربع، يرسم ملامح عِينة الخريف فى بادية البطانة ، مقروناً بشوقه القديم ، ويقول : " غابْ نجْم النَطِحْ ، والحَرْ علينا إشْتِدّ / ضَيّقْنا وقِصِرْ لَيلُو، ونِهارو إمْتَدَّ / نَظيرة المِنّو للقانونْ بِقيتْ أتْحَدّى/ فتَحَتْ عِنْدِي مَنِطقة الغُنَا الإنْسَدّ "..! /////////