٭ الخميس الماضي أعد الصحافي ياسر الكردي تحقيقاً مخدوماً عن اوضاع داخليات طلاب التعليم العالي في الخرطوم، قدم من خلاله صورة مباشرة من داخل الداخليات اوضحت الحالة المزرية التي آلت اليها اوضاع الطلاب الصحية والمعيشية والبيئية.. تلك الداخليات التي يشرف عليها ما يُسمى بصندوق رعاية الطلاب.. او «طلاب دعم الصندوق» كما كان يتندر الطلاب وذووهم في اوقات سابقة لأول عهد انتزاع الداخليات من جامعاتها -وجامعة الخرطوم خصوصاً- والحاقها بالهيئة التي اخترعتها حكومة «الانقاذ» والتي اطلقت عليها في البداية مسمى «صندوق دعم الطلاب» واوكلت اداراتها الى بعض كوادرها لدوافع سياسية معلومة، اهمها تفتيت وحدة طلاب جامعة الخرطوم.. ذات السوابق التاريخية في الهبات والثورات. ٭ زار الكردي عدداً من داخليات الطلاب والطالبات، يتبع بعضها لجامعة الخرطوم واخريات في ام درمان تخدم جامعات مختلفة، فرأى رأي العين واستمع مباشرة لما يقوله الطلاب حول اوضاعهم وظروفهم في هذا الواقع المفروض عليهم.. لم يغفل المحرر ما هو ايجابي.. كاخلاء داخليات «البركس» التي كانت في ما مضى تخصص للطلاب المبتدئين في جامعة الخرطوم وتحولت مع «الصندوق» الى داخليات للطالبات من كل الجامعات -تحت مسمى «مجمع الزهراء»- ولكن الصندوق تراجع اخيراً واعاد تخصيصها لطالبات جامعة الخرطوم دون سواهن من طالبات الجامعات الاخرى.. مما خفف الزحام وما يترتب عليه من مشكلات، فعاد الهدوء والاستقرار النسبي كما عبرت الطالبة «اسراء» للمحرر. ٭ لكن المشرفة الاجتماعية بمجمع «الشهيد علي عبد الفتاح» افصحت عن ما هو اهم واخطر.. اذ عبرت للكردي صراحة عن حالة «الفاضي ومغطى» -كما يقول المثل السوداني البليغ- فقالت ان عدداً من الطالبات -لم تحدد رقمه اونسبته- كنّ يشكين من امراض متواصلة، وفور عرضهن على الطبيب والفحص في الوحدة الصحية اتضح ان «عدداً كبيراً جداً» من اولئك الطالبات مصابات ب«فقر الدم» -او الانيميا- فكان أن جاءت فكرة تلك الباحثة الاجتماعية لمكافحة تلك الانيميا او فقر الدم ب«البليلة العدسية».. ٭ ويبدو ان ادارة الصندوق قد «وقعت لها الفكرة فوق جرح» فقامت على الفور امانة الصندوق بولاية الخرطوم بتوفير «كميات مهولة من المنتج».. اي «اللوبيا العدسية».. ولم يتردد مشرف مجمع الزهراء بالاشادة واطراء نجاعة «الفكرة» حيث قال ل«السوداني»: ان فكرة مكافحة فقر الدم ب«العدسية» لاقت قبولاً واستحساناً كبيرين ما جعلها تنتقل الى معظم داخليات الطلاب وتعميمها حيث يتناولها «الاكالة» -الذين هم الطالبات والطلاب- بطريقتين اما بالسكر او بالملح والبصل والشمار.. ما شاء الله! ٭ اما عن النظافة والبيئة التي يعيشها طلاب الداخليات فقد خرجت جولة «السوداني» بتسجيل صورة قلمية عن حالة التدني من حيث تهالك مباني بعض الداخليات التي تفتقر الى الصيانة والى الصرف الصحي (الضروري والفعال)، بكل ما يمكن توقعه من مترتبات على صحة الطلاب.. وان كان الامر في هذه الحالة لا يقع على عاتق ادارة الصندوق وحدها، بل يمتد ليشمل اوضاع الصرف الصحي في الخرطوم بعامة والتي تقع ضمن مسؤولية الولاية ومعتمديتها. ٭ حكاية «البليلة العدسية» كوصفة سحرية لمقاومة فقر الدم لدى الطلاب والطالبات، اعادتني الى اكثر من اربعين عاماً للوراء، ففي عامنا الاول بجامعة الخرطوم شهدنا اضراباً طلابياً هو الأول من نوعه، كان الطلاب حينها يطلقون عليه اضراب ال(self-service) اي الخدمة الذاتية، ففي ذلك العام قررت ادارة الجامعة تحويل «خدمة الجلوس» -اي أن يجلس الطلاب الى موائد الطعام ويقوم «السفرجية» بخدمتهم وتقديم الوجبة حسب الطلب.. كان ذلك القرار قد قوبل بالاستهجان والرفض من قبل الطلاب وكأنه ينتقص حقاً من حقوقهم المكتسبة.. إذ كان الطالب الجامعي حينذاك -وربما بحكم العادة- يعتبر ان قيامه بخدمة نفسه من خلال «بوفيه مفتوح» ينطوي على مساً بكرامته.. فثقافة الخدمة الذاتية والبوفيه المفتوح كانت امراً جديداً وطارئاً على اولئك الطلاب «المنغنغين». ٭ وربما يكون مفيداً من باب المقارنة مع «وصفة العدسية» ان نلقي نظرة عابرة على بعض اصناف الطعام التي كانت تقدم للطلاب في ذلك العهد، قبل وبعد الخدمة الذاتية.. كان المطعم او البوفيه يحتوي على سبيل المثال على اللبن الطازج والفواكه وأغلبها يأتي من مزارع الجامعة في شمبات، كما يحتوي على اللحوم بجميع انواعها الحمراء والبيضاء، تقدم مطهية بمختلف انواع الخضار او مقلية كما في حالة الدجاج والاسماك.. هذا غير البيض المقلي او المسلوق والسلطات بانواعها والباسطة والبسبوسة للتحلية.. وها نحن نعيش اليوم لنرى ان طلاب الجامعات يقيمون اودهم ويداوون فقر دمهم ب«البليلة العدسية».. وهذا لم يشهده طلاب المسايد والخلاوي السودانية حتى في زمن السلطنة الزرقاء.. اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.. يا رب!