سألت صديقي الروائي عبد العزيز بركة ساكن عن عالمه/ مناخه الخاص،عندما كتب "الجنقو مسامير الأرض"؟. ردّ قائلاً: ( لم يدر بخلدي كتابة رواية، وأنا أستقل «البربارة»- وهي عربة لاند كروزر قديمة الصُنع يستبدلون ماكينتها العاطبة بماكينة تراكتور- من مدينة صغيرة على شاطئ «نهر باسلام» بشرق السودان. بعد أن عبرنا النهر خائضين حاملين أمتعتنا القليلة فوق رؤوسنا، بل كل الذي يدفعني للسفر هو إحساس عصي باكتشاف الأماكن البعيدة ومعرفة ما يدور هنالك. كيف يعيش الناس بعيداً عن المدينة وماذا يفعلون بالتحديد وفي الغالب أشاركهم متع الحياة، حيث إنني أتعلم من الطبيعة مباشرة ما يُستعصى عليّ أخذه من الكتب. فالطبيعةُ زبُور الزِبَرْ. وكنت مُستعداً للاستمتاع أيضاً بما ينتظرني. لأن الطريق سينتهي في مثلث الحدود السودانية- الإثيوبية- الإريترية عند قرية صغيرة اسمها همدائييت. يفصلها عن إثيوبيا النهر الذي خضته قبل ركوب «البربارة»، ولكنه يُسمى عندها «نهر سيتيت» ومعروف في الجغرافيا بنهر عطبرة. وأنا أحب الأطعمة البلدية الإثيوبية المُتبَّلة وشراب السُوَاْ المُصنَّع محلياً من الذرة، الذي يهيئ الجميع لأداء رقص بهيج على إيقاعات المغنية الجميلة «هيلين ملس». كان بالعربة العجوز قربي عدد كبير من العمال الزراعيين الموسميين ، في الحقيقة كان صندوق العربة الصغير يحمل عشرين رجلاً، وامرأتين تركبان يمين السائق كل منهما تحمل طفلاً رضيعاً. وكنت الشخص الوحيد الذي ليس من المكان. ويبدو واضحاً للجميع، ليس ذلك من طريقة لبسي أو لغتي وهما مختلفان وغريبان بالطبع، ولكن من طريقة جلوسي في العربة المُتهالكة، حيث إنني كنت أمسك بكل قواي المقعد الخشبي الذي كان سيطير حتماً في الهواء مُتخلصاً مني في تلك الفلوات الشاسعات واهباً إياي طعاماً للطين وهوامه. والعربة تجري بأقصى ما لديها من سرعة تراكتور ماركة ماسي الروسية. قافزة على الحفر والخيران والجداول المائية الجافة مثل كلب صيد يُطارد ثعلباً ماكراً يَخْبَر طرائق الهرب جيداً. وعلى الرغم من سحابة الغبار التي نغرق فيها جميعاً وصوت البربارا الذي يشبه نهيق مليون حمر مستنفرة، إلا أن الرجال كانوا يتحدثون باستمتاع خاص ويضحكون وهم في استرخاء تام، ويسألونني بين الفينة والأخرى، من أين أنا وإلى أين ذاهب ولم؟ وهذه الأسئلة كما عرفت فيما بعد ليست نوعاً من التحشر فيما لا يعني، ولكن يعتبرها كل شخص حقاً له أصيل في معرفة الحد الأدنى عن الآخر. فالحياة في المفازات ليست دائماً آمنة، المعرفةُ اطمئنانٌ ومشاركةٌ سريةٌ للمصائرْ: أَجْدَى عَليَّ بشخصية عبدالرحمن. يبدو أن الرحلة كانت طويلة جداً، عبر المزارع التي لم يتبق بها سوى سيقان الذرة والسمسم، حيث تم الحصاد منذ شهر مضى، والأشجار شبه جافة والأرض يغلب عليها اللون البني وفي بعض المواقع المكشوفة تبدو شديدة السواد. هنالك في البعيد بدا شبح مدينة ترقد أسفل وادٍ عملاق. تلك هي التي أسميها في ما بعد في روايتي: ب«الحِلة». تقع الحِلةُ في أراض منخفضة تشقها الخيران الموسمية الكبيرة والتلال الترابية. بها مستعمرة متوحشة من نبات الحسك الشوكي وبعض المتسلقات الطفيلية التي تزيّن أسوار المنازل المصنوعة من قصب الذرة وأعواد أشجار الكِتر ومحاطة بأغصان شائكة حتى تبعد عنها شيطنة الماعز والحمير الضالة. تقريباً في كل بيت توجد شجرة نيم عملاقة، وبعض «القُطيات»، وهي مبانٍ مخروطية كبيرة مصنوعة من القش والحطب والبامبو وبعض الطين اللبِن. وهي البيوت الأكثر مقاومة للمطر والريح والأكثر مواءمة للجو الجاف الساخن أيضاً، ويمكن الاعتماد عليها في فصل الشتاء القصير. إنها صنيعة الطبيعة. كان الذين يجلسون قُربي يرون من حقهم معرفة أين أريد أن أقضي ليلتي. لأنني لا يمكن أن أذهب إلى الحدود الإثيوبية اليوم. وكل السيارات الذاهبة إلى هنالك سوف تتحرك غداً صباحاً، خوفاً من اللصوص وقُطّاع الطرق الذين ينشطون بعد مغيب الشمس، فأخذني شخصٌ طَورتُ شخصيته فيما بعد ووسمته «بود أمونة» إلى بيت مدهش يرتاده السُكارى والعُشاق والفاسقون المهملون وَمَنْ تَقطّعت بهم السُبل وحُجاج المُدن الإثيوبية المجاورة: أندَيَّتُ عليه بيت الأم. عندما تأكدت صاحبةُ النُزل أنني لست من الجنقو، ولست من جواسيس الحكومة ولا يبدو عليّ مظهر من مظاهر التدين غير لحيتي المهملة، ولم يكن هنالك دليل على أنني من أنصار بعض الجماعات المتطرفة التي تسمع بها كثيراً، أكرمتني بأن أتاحت لي فرصة أن أشغل «قُطِّية» صغيرة وحدي. ووصَلَتَنِي بفانوس كبير الحجم يعمل بالجازولين. وضعته قريباً من النافذة حتى لا يخنقني دخانه الكثيف: تلك المرأةُ أسميتها في رواية الجنقو: «اَدَّيْ»، وتعني بلغة قبيلة التجراي، الأم... فكتب بذلك المكان- السارد الأعظم- روايته. بنى شخصياته. رسم لغته واختار أسلوبه).