ونقلب في فرح أو حتى في أسىً دفتر الوطن.. في تلك الأيام الذهبية.. والتي يصفها أحبابنا الأخوان بأيام الجاهلية.. وأي جاهلية تلك وميدان المولد.. كل عام.. كل عام.. تزدحم في فضائه رايات الأنصار.. وهي تعلو ديباجاتها.. بمقطع النشيد الجهادي.. و(من طعن الكبش).. وأحبتنا الختمية.. ينشدون في تعميم (ربي أشغل أعدائي بأنفسهم وأبليهم بالمرح) وأظن أن الله استجاب لدعواتهم، وها هم ينشطرون قطعاً وكل يوم.. خارج ومفارق ومغادر.. كيف هي أيام جاهلية.. ومولانا شيخ أبوزيد.. له خيمة في قلب المولد.. صحيح إنها 4متر*4 متر.. ولكن مكرفوناتها تهدر وتستهجن (النوبة والذكر والطار).. وفي قمة انفعاله وانفعال أحد تلامذته ينفخ في الميكرفون قائلاً «لو كان سيد هذا الجامع موجوداً لما رزم طار ولا تمايل ذاكر ولا مدح مادح». والله عجيبة.. وينكرون ضوء الشمس الساطع.. عن عمد.. ولا أقول عن رمد.. لأنهم يعرفون ويعلمون.. كيف كان الوطن.. وكيف كان يعيش الشعب.. وكيف كان يتعلم الشعب.. وكيف كان الشعب لا يعلم طريقاً التماساً للعلاج.. غير مستشفيات الحكومة التي لا يدفع فيها المواطن مليماً أحمر. نعود الآن إلى جامعة الخرطوم.. ولماذا جامعة الخرطوم تحديداً.. فقط لأن معظم- إن لم أقل كل- (الأخوان) الذين يقودون الوطن الآن هم الذين نهلوا العلم من جامعة الخرطوم.. وكيف أنهم يعرفون ويعلمون أنهم أو أولياء أمورهم لم يدفعوا (تعريفة) طيلة تحصيلهم العلم في جامعة الخرطوم.. بل أن الجامعة كانت تقدم مبلغاً من المال للفقراء منهم، رغم إنها توفر غير المراجع والقاعات والدكاترة والأساتذة كانت توفر السكن والطعام.. وبمناسبة الطعام فقد كانت (السفرة)- أي قاعة الطعام- أكثر فخامة وترفاً ودسامة من أشد الفنادق ترفاً وفخامة الآن.. فقد كانت (التحلية) فرضاً واللبن والباسطة واجباً.. والشاي الزامياً. ولن تنسى الجامعة.. أمر ذاك الطالب الآتي من (الريف الجواني) للوطن.. فقد جلس للمائدة في قاعة الطعام.. وفي أول يوم دراسي له جلس إلى المائدة.. رأى فيها ما كان يراه (هارون الرشيد) أصنافاً وأنواعاً من الأطعمة.. مهرجاناً من الأطباق.. زفة من الألوان.. نظر للمائدة ملياً ولم يعرف من أصنافها شيئاً غير الخبز.. هنا ضرب المائدة بقبضة يده وهو يصيح (من كد وجد) آه من ذاك الزمان.. ليته يعود.. لتعود أنفاس الناس هادئة في الصدور بعد أن فرض عليها الأخوان أن تركض من صباح الله وحتى هجعة الليل، لتوفر للعائلة (وجبة) بائسة من طعام.. لأنه وفي ذاك الزمان ما تحدث حتى أفقر الفقراء من العمال.. عن طعام أو شراب.. كانت الوجبات ثلاثاً وكأنها مقرر تجاوزه مستحيل، وأهم من كل ذلك فقد كانت العائلة كل العائلة.. تجتمع حول وعند وجبة الغداء.. ليس لأهمية الطعام.. بل لأنها جلسة ضرورية ويومية ليعرف الآباء والأمهات كل شيء عن الأبناء.. تعليماً وهنداماً وسلوكاً وفكراً. وأخيراً نذهب إلى الحياة الاجتماعية في ذاك الزمان البهي.. عندما كانت الأندية تفتح أبوابها للمناقشات والمناظرات.. عندما كانت ليالي الأعراس والأفراح تتمدد حتى ساعات السحر.. عندما كانت دور السينما.. تشبع المتعة والمعرفة وحتى العلم وروعة الروايات.. والتاريخ مصوراً.. وهاهو السودان وكأنه قد عاد إلى العصر الحجري بلا دار سينما واحدة.. باستثناء تلك التي تقدم مسخاً مشوهاً يأتي من آسيا وباسم الأفلام.. وقبل أن نودع ذاك الزمن الزاهي.. نقول.. إن المال العام في ذاك الزمان كان محصناً تحصيناً اسمنتياً وفولاذياً ليس بالقوانين والبوليس والنيابة وصلابة الخزائن.. محصناً بالإنسان السوداني الشريف النبيل، والذي لا تمتد يده للمال العام مهما بلغ به الاحتياج، ومهما اجتاحته أعاصير الجوع وضاقت عليه الدروب وأبواب الحياة.