المساء غريب، وهدأة ليل القاهرة تغري بالسهر،ووجوه السمراويت في شارع 26 يوليو تجول وتجول، وأنا أسوح داخل أثوابهن حتى الفجر، ثم أعود القهقري إلى العتبة.. أقرأ جريدة «الأهالي»، لعل وعسى، شمس الإشتراكية، تشرق من جديد..! شغوفٌ أنا بالكتب الممنوعة، و بالمزامير، و ب«........»الثقافية..! كنت أحمل في جيبي حِجاباً، لتلطيف غائلة العذارى.. كنت استرق الرؤيا بين فرجات الضّباب، فترعبني حجارة جبل المقطم، التي إذا ما حطّها سيل الأحداث من علٍ، فإنها لن تتوقف أبداً إلا في قلب ميدان التحرير..! بعد عشرين سنة من ذلك الخيال، تزحلق سلطان علاء وجمال مبارك، على قشرة الفيسبوك، مثلما تزحلق هذا الجبل العتيد على يد سمعان الخرّاز..! هناك شيء مخبوء في مناجم الشعب، لن يكتشفه الحكام أبداً..! إنّه بخور كاتدرائيات الجماهير، فيه شيء كثير، ممّا ترك آل داؤود..! هذا منفذ الخروج الغربي ،هذا آخر تل من صحراء مصر،«التي في خاطري وفي دمي»...! قلبي لم يطاوعني وما كان من المهتدين.. تركته ورائي في ناحية من شارع سانت فاتيما ، وخرجت إلى منفذ السلّوم.. للدنيا هناك ثلاثة ألوان: زرقة البحر، وإصفرار الرمل، وسحنتي التي غبّشها كدر الأيام..! في تلك الأيام،كان التجمع الوطني الديمقراطي لانقاذ الوطن، يحط رحاله في القاهرة، وكان «الريِّس»، حسني مبارك، يفتتح مصنعاً في الصعيد، فقال بمناسبة أو دون مناسبة إن أعداد السودانيين في مصر، تتجاوز الثلاثة ملايين..قال ذلك قبل سنوات مواجهته لقدره المحتوم على يد أصدقاءه،الذين قرروا الإجهازَعليه، بعد أن خنقوا الخرطوم..! تركت كل هذا ورائي، بما فيه من غنج الليل وكلامه الذي يمحوه النهار، ودخلت نحو جماهيرية الله..! عندما ختم موظف الجوازات المصري في السلّوم على أوراقي،أحسست به يقول لي«قطر عجيب»...!دخلتُ الأرض العُظمى، فشّدّهتني لافتة خضراء بالبونط العريض،مكتوب عليها «الدّجاجة تبيض، الدينارلا يبيض»..! ما أحوجني إلى الدفء ، فالجو هنا «جَوْ فُول»، والماء كثير، لكنه مُر، مثل «حديث الظهيرة»..! تحت هذه الرمال دُفِنت مكائد الجند وأسيّاتهم.. في هذه الصحراء، تختبيء ألغام الاتفاقيات الممهورة بحبر القهر في سوانح السِلْم..هنا يحلم الشغيلة خِفيةً، بعودة المسيح، ومن هنا إخترق ثعلب الصحراء المدى، نحو مرقده الأبدي..هذا الرمل حاله من حال الدنيا..هذا الرّمل يُخرِج أثقاله ، فلو لم تنشب الحرب لما وسِعنا إتِّساع الكون، ولو لم يقتل الطاغية كثيراً من الخلق، لما بقي في الحكم أربعين سنة..! ولو ظفر الطاغية بغالبية شعبه، قبل حين من الدّهر، لبقِيّ فيهم أربعينية أخرى..! هذه رائحة البنزين الذي أنتجته حقول طبرق تملأ أنفي،، تسطلني، و تنقلني إلى وادٍ آخر..هل سطلت أسماك البحر فتقافزت من هذا الأبيض المتوسط ، حية و ميتة..؟ هذا الماء، يُترع في رمالٍ لا ترتوي، فهي مثل ليل السُكارى..! الأنثى في الغربة مثل ظلٍ تحت العتمة..لا شيء غير اللّمس، و لا محفل في الطريق، إلا مواقف السفر..! في هذه الناحية من الصحراء الكبرى تفرّقت بي السُّبُل، و النساء اللائي تسكعن أمامي في ميدان العتبة و عند باب اللّوق، تبخرن من ذاكرتي، كما تبخر نشامى تكريت بين دواعش الشّام والعراق..! قد كان لي في تسعينيات الماضي وطنٌ جميل رحيب إسمه السودان، لولا أنّ الشيخ أبى..! هذه حدود المستعربين، تمتليء وتفرغ بالهاربين من زحف القائد الأوحد، الذي أنجز وعده ، وطارد شعبه ..! عند شاطيء الملح الأزرق،الذي يمتد حتى رأس جدير،سوف أستبدل لساني، وعُملتي وكوفيّتي، وسأقول كما تقول الجُرذان«الله غالب»..!