بمناسبة اليوم العالمي للمرأة وعيد الأم سنحكي بعض قصص أمهات صلبات: من أساطير وادي النيل إلى شيخات مجتمع من تاريخ السودان: فاطمة بنت جابر، أمونة بنت عبود، خديجة الأم درمانية وغيرهن وغيرهن. أما المرأة السودانية بعد الاستقلال فمعلوم أنها أول امرأة في أفريقيا تتولى القضاء ثم تتولى الوزارة حتى رتبة لواء شرطة ورئيسة تحرير.. *** في فترات النضج الحضاري التي تأتي دائماً على شكل دورات في تاريخ جميع الأمم، لا توجد فواصل حادة بين الرجل و المرأة.. فلا تجد مثلاً تاريخاً يخص أحد الطرفين دون الآخر. المجتمع المتحضر، دائماً، يضمن للمرآة حقها، أو يترك لها حريتها لتأخذ حقها!! أما الحضارات الضعيفة، قد تنجب ظواهر نسائية تملك القدرة على الاختراق، ولكن عملية (الاختراق) هذه، أحياناً تفرز ظواهر أسطورية لا تتكرر، ولا يجب أن يقاس عليها. فوجود ملكة على العرش، لا يعني في كل الأحوال أن حقوق المرأة محفوظة. أما إذا اشتد الظلام فعصور الانحطاط تنتج كماً مهملاً من الرجال والنساء على حد سواء، وليست المسألة منسحبة على المرأة وحدها. في تاريخ وادي النيل المبكر جداً، والذي يبدأ دائماً بحقبة الأسرات حوالي (3500 ق . م )، لم تكن هناك مشكلة في عملية تقسيم الحقوق بين الجنسين، يقال إن العلاقة شابها الخلل في فترات الأسرات (6-12)، وهذه الفترة في التصنيف فترة الضعف السياسي والاحتلال الأجنبي !!. في تلك الفترات ظهرت المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل، في أساطير الديانة المصرية القديمة، تبدأ قصة الآلهة بالإله (جب) رب الأرض، ومعه في العرش ربة السماء الإلهة (نوت). من نفس هذه العقيدة يخرج أوزوريس وزوجته إيزيس، وهكذا تستمر سلسلة الإلهات مثل: نفتيس، موت، باعت، ناين ...الخ. بعد تلك المرحلة، تأتي فترة الملكات الحقيقيات وغير الحقيقيات (وصيات العروش)، ثم القديسات وربات القصور، ثم حسناوات الحانات والفنانات، وأخيراً المرأة العاملة وربات البيوت (موظفة وفلاحة). في بداية التاريخ المذكور، النظرة كانت للمرأة طبيعية، لم تكن كماً مهملاً في مجتمع حريم، ولا كانت امتداداً ثانوياً للذكر، كما هي الآن في الأسواق، بل كانت هناك شراكة طبيعية. هذا النضج عبر عنه حكيم أحد الوزراء يسمى(بتاح حتب) حوالي (0042 رقم) وهو يحدد واجبات الرجل بقوله: «الحب هو أن تشبع جوفها وتستر ظهرها».. ولم يكن مفهوم الحب كما هو معلوم الآن: أن تترك لها حريتها ليصطادها الرجل بسهولة في الأسواق، وأماكن العمل في معركة ليست لها.. أو أن تستهلك جسدها دون ضمانات!!. والملاحظ في تلك الفترات، أن المرأة في فترات الانحطاط الطارئة، كانت تملك القدرة على انتزاع حقها، لا لتبقى وحدها في الساحة- كما تتطلع المرأة الآن- بل لتعيد الأمور إلى نصابها!! صلابة المرأة الإله : إيزيس أشهر الربات في وادي النيل، بل تخطت حدود مصر لتعبد في أرجاء الإمبراطورية الرومانية.. كثرت حولها الألقاب، اعتبرت مثالاً للخير، وعرفت بالساحرة العظمى التي استطاعت بالحيلة التوصل إلى اسم الله الأعظم، لتأخذ حق انجاز الخوارق والمعجزات، بل يقال إن قصة الثالوث المسيحي مستوحاة من ثالوث: (أوزوريس الأب) وإيزيس (الأم) وحورس (الإله الأكبر). الأسطورة تحكي أن (ست) قتل زوجها أوزوريس وهما في حفلة الزفاف، ولكن إيزيس بقوتها الخارقة استطاعت أن تجامع زوجها الميت، وتنجب منه الإله الأكبر حورس! وعندما لاحقهم (ست)، فرت به بين مستنقعات الدلتا وهي محروسة بعدد من العقارب، تقول الأسطورة، أنها أعادت الطفل إلى الحياة بعد أن لدغه عقرب قاتل. الشاهد في قصة هذه الأسطورة: أن صلابة الأمومة هي التي فرضت على العالم الإله الأكبر حورس، وبها أيضاً انتزعت (ماء الحياة من صلب الذكر الميت لتغذي أمومتها!!) حتشبسوت: تلك الصلابة الأسطورية في قصة الإله إيزيس، استوحتها الملكات اللائي حكمن وادي النيل في حوالي (2500 ق . م ). ألقت الملكة حتشبسوت في روع شعبها بأنها ابنة الإله آمون.. القصة التي فرضتها على الناس تقول: زار الإله أمها وهي زوجة (تحتمس الأول) على صورة زوجها الملك، وعندما رأته الملكة على حقيقته، دبّ حبه في أوصالها... وفي هذه اللحظة تكون الجنين في أوصالها.. أما المولود من تلك الحضرة الإلهية فقد كانت الإمبراطورة حتشبسوت التي فاقت في طموحها الرجال. هذه الملكة هي صاحبة المعابد في شمال السودان، من بينها معبد بوهين الموجود في المتحف القومي في الخرطوم. يقولون عنها إنها، سحبت تاء التأنيث من اسمها، فبدلاً من (حتشبثوت) أطلقت على نفسها (حتشبو)!! ووضعت لحية مستعارة ولبست كالرجال، لكنها أظهرت براعة فائقة في قيادة الجيوش، وأقامت إمبراطورية ضخمة. *** في بداية الدولة المصرية الحديثة «1570-1075 ق . م» وهي فترة نضج حضاري، ظهرت الكثير من النماذج من جنوب وادي النيل، كالملكة تي ونفرتيتي ونفرتاري . بدأت السلسلة ب (أمح حتب) وهي ملكة غير متوجة، ولكنها لعبت دوراً كبيراً في طرد الهكسوس من مصر، وهي زوجة (سفن رع) وأم الملك المصري الشهير (أحمس 1750 ق . م ). والأخير يعتبر رمزاً للاستقلال المصري في بدايات الدولة (المصرية الحديثة).. حرضت هذه الملكة الشعب المصري على مواجهة الهكسوس، وسافرت إلى جنوب الوادي.. استمرت في الحرب بعد مقتل زوجها حتى نهاية المعركة.. أقنعت الشعب المصري بتقديسها وعبادتها بعد موتها . في السلسلة أيضاً الملكة تي، وهي من أميرات جنوب وادي النيل (بلاد النوبة فيما بعد)، وهي أم الملك المصري أخناتون صاحب الديانة الجديدة.. يقرأ المؤرخون خطورتها في حجم تماثيلها، وقامت بدور كبير في محاولة التوفيق بين ابنها وكهنة آمون، وهم سدنة الديانة القديمة. *** .. ونواصل في الحلقة القادمة أمهات من تاريخ السودان..