٭ تجديد الخطاب الديني.. وتنقيح المناهج الدينية.. أو نقد التراث.. كلها عناوين أفرزتها أحوال الاضطراب والفتنة التي تضرب البلدان العربية والإسلامية في الوقت الراهن.. فتهلك الأنفس والأملاك والمنشآت.. فبدلت أمن الناس خوفاً.. وجعلت مستقبل الدول على «كف عفريت».. عفريت التطرف الذي اتخذ لنفسه عناوين عديدة.. منها القاعدة، جهة النصرة، أنصار الله، جند الحق، داعش وبوكوحرام.. يتحدث جميعهم أنهم جاءوا لإقامة الدين وإحياء سنة الجهاد وإقامة شرع الله.. فانخرط الآلاف من الشباب تحت «الرايات السوداء»، المعروفة ب «راية العُقاب». المسؤولون وبعض الفقهاء وأهل الرأي رأوا أن من بين بواعث هذه الفوضى «غير الخلاقة» هو الخطاب الديني المتطرف.. المستند إلى بعض الأحكام الفقهية الظنية والفتاوى القديمة.. التي تحرض على القتل واستباحة الدماء.. بالإضافة، طبعاً، إلى البطالة والفقر وانسداد الأفق أمام الشباب في مستقبل أفضل.. فنادوا بضرورة تجديد الخطاب الديني ونقد التراث وتنقيته من تلك الشوائب والأوهام التي سمَّمت العقول وأفرزت هذه الحالة المأساوية. ٭ مصر.. موطن الأزهر الشريف.. ومنبع الحركة الإسلامية الجديدة .. ممثلة في حركة الأخوان المسلمين.. التي تفرعت عنها وخرجت من عباءتها كل حركات التطرف المستحدثة بفقه حسن البنا وبيعه «المصحف والمسدس»، وسيد ومحمد قطب، وأدب التجهيل والتكفير المتمثل في «معالم في الطريق» و«جاهلية القرن العشرين» وغيرهما.. تشهد - مصر - هذه الأيام دعوات متصاعدة لتجديد الخطاب الديني بدعوة من رئيسها عبدالفتاح السيسي الذي طالب الأزهر بإعادة النظر في المناهج الدينية بما يتفق مع صحيح الدين والوسطية.. وهي دعوة سبقتها ولحقتها دعوات من مفكرين وفقهاء وباحثين تحض على إعادة النظر في التراث الديني.. الذي هو إنتاج فقهاء وعلماء متأخرين، نسبياً، عن عصر النبوة.. عمدوا بدوافع مختلفة.. بينها التقرب إلى أهل الحكم والسلطان.. إلى إصدار أحكام فقهية وفتاوى ظنية تستند إلى نصوص غير قطعية الثبوت والدلالة.. فوفرت للمتزمتين التكفيريين في عصرنا مادة خصبة لإنتاج هذا الخطاب الدموي المتطرف الذي لوث عقول الشباب.. فأصبحت «الردة» و «التكفير» من أيسر الأحكام التي يمكن لأيٍ كان أن يصدرها بحق الآخر فرداً أو مجتمعاً أو دولة.. ويأخذ بيده حق العقاب قتلاً أو تفجيراً. ٭ ما دعاني للإضاءة على هذه القضية، غير الحالة العامة وأخبار الحروبات التي تنتظم المنطقة من أقصاها إلى أقصاها، سهرة أمضيتها ليلة الجمعة- السبت أتابع ندوة حوارية ومواجهة فكرية نظمها خيري رمضان مذيع قناة (سي بي سي) المصرية في برنامجه (ممكن)، وكان أطرافها الباحث «إسلام بحيري» الذي يقدم برنامجاً راتباً بقناة (القاهرة والناس) تخصص في نقد التراث بل «نقضه» على حد تعبيره، باعتبار أن «التراث» الذي كتبه أصحاب المذاهب الأربعة وكتاب الحديث وفي مقدمتهم الطبري والبخاري ومسلم قد أخرج الدين عن جوهره وأتى بدين جديد لا يمت لأصل الإسلام- دين الرحمة والعدل والسلام - بصلة.. وكان في الطرف المقابل باحثان وفقيهان هما الدكتور أسامة الأزهري أستاذ علم الحديث بالأزهر الشريف والشيخ السعودي الحبيب علي الجفري وقد عرف كلاهما بحسن الخطاب والوسطية والتبحر في العلوم الدينية. ٭ الندوة كانت زاخرة بمعارف دينية وفقهية وتاريخية كافية لكتابة مجلدات.. ولكن أهم ما فيها هو التأكيد على عدم قداسة «التراث وكتَّابِه».. أكانوا مُحدِّثين أو فقهاء، وأنهم قابلين للنقد والجرح والتعديل من وجهة نظر الشيخين الأزهري والجفري .. بينما أصر إسلام بحيري على أقواله ومواقفه الواردة في برنامجه بأن جل التراث بمذاهبه الأربعة وشيوخه وكُتَّابِه أسسوا فقهاً ورؤىً خارج صحيح الدين ومقاصده السمحة وأضروا برسالة الإسلام وأساؤوا لصورته ومهدوا الطريق أمام ظواهر الخروج والتطرف والتكفير، التي تضرب المنطقة الآن وفي مقدمتها «داعش».. مشكلة إسلام الحقيقية.. وهو باحث متمكن يتعب في شغله ويأتي بالحجج والبراهين والأسانيد.. هي في نظر الشيخين- وفي نظري أيضاً - تكمن في حدة الخطاب والألفاظ الجارحة التي يوجهها لعلماء وشيوخ السلف الذين ينظر العامة لهم باحترام وتوقير، إن لم يكن تقديس، وكان بإمكانه أن يصل لنفس النتائج بخطاب أقل حدة وبلغة سمحة تنساب إلى خواطر ونفوس مستمعيه بكل يسرٍ ورضاء .. والله أعلم.