والطائرة تحلق بنا في السماء مع زمرة من الصحفيين المرافقين لوفد صندوق الإسكان والإعمار، ووفد من البنك العقاري لحضور فعاليات ورشة قضايا الإسكان التي اختارالصندوق إقامتها في نيالا، ليتم في إطار الحدث افتتاح فرع البنك العقاري، هناك استرجعت ذكريات أيام خلت قبل أن تتدخل الأطماع الخارجية في دارفور، وتحشر أنفها ثم أياديها لتؤثر على روعة المشهد في مناطق كانت لا تتعدى خلافات أهلها جلسات الأجاويد المحليين، بحكم أنها مناطق ارتبطت بالإسلام، وكانت منها تنطلق كسوة الكعبة قبل مطامع الخارج التي لا يهمها إلا نفسها، والتي أبث لهذا النموذج الذي يستمر مشهده كاملاً بلا ثقوب، ولعابها يسيل على خيرات دارفور، التي يقال إن احتياطي النفط بها يبلغ 3 مليار برميل بجانب الثروة الحيوانية التي تقدر ب70 مليون رأس، وبالإضافة لثرواتها الكبيرة... المهم جالت بخاطري تلك الأيام التي كنا نزور فيها دارفور ولا نريد أن نغادرها بسهولة، تذكرت جبل مرة وهو من أجمل ما حبانا الله به في الدنيا، فهو مدهش في كل شيء فمن أعلاه الى أدناه تجري مياه نهر من أعذب مياه الدنيا، وغابات من الفواكه تتساقط عليك منها ثمار التفاح والمانجو والجوافة، وطيور تغني لك، وناس هناك يحبون الجمال والسلام.. ففي وسط ذلك الجمال لا يذكر الإنسان إلا الله بديع الخلق الذي أنعم عليه بكل ما حوله من خيرات، ثم تذكرت نيالا وكثيراً من الأسر التي تقيم بها، والتي هي من أعرق الأسر السودانية بتاريخها وكسبها في مختلف مجالات الحياة، وتذكرت كيف أننا كنا نتحرك من نيالا للفاشر، وأكثر ما يجعلنا نسرع بأشواقنا الى منواشي الشواء المتميز ورائحة الطبخ وطقوسه الجاذبة، فمنواشي هي من أميز بقاع السودان التي تجيد الشواء، وتذكرت وتذكرت وتذكرت، فكل شئ يغريك بالعودة اليها مرة ثانية.. عموماً وجدت نفسي بعد هبوط الطائرة في نيالا- بعد انقطاع امتد لسنوات- ظلت تجاهد هي فيها لتحافظ على تماسكها ونجحت في عهد د. عبد الحميد موسى كاشا، الذي جاء في أصعب مهمة، وفي أصعب المراحل اليها منتخباً وتطلعات من انتخبوه كبيرة وأحلامهم بأن يعيد جنوب دارفور الى سيرتها الأولى أكبر، وتصل الى أحلام أن يقفز بها الى الأمام، والرجل كما أعرفه هميم جداً وديناميكي جداً وقوي جداً، فهو أول مسؤول حكومي يدخل في هدوء الى معسكر كُلمة المرعب، ويتحاور داخله مع النازحين، وهو من أبناء الولاية الذين طوروا قدراتهم وامتلكوا تجارب تعينهم على إدارة ولاية هي صعبة، ولاية موقعها الجغرافي المميز ونسيجها الاجتماعي المميز وامكاناتها الاقتصادية الكبرى كلها بحاجة الى والٍ مميز.. وقد وضح للوفد من استقبال الوالي كاشا لنا في المطار ورفضه مفارقة د. غلام الدين عثمان وزير الدولة، والأمين العام للصندوق القومي للإسكان رئيس مجلس إدارة طوال البرامج التي يرى كاشا أنها مهمة لولايته وإنسانها الذي هو بحاجة الى السكن وبحاجة الى تطور تقنيات البناء في القرن الواحد وعشرين، فجاءت كلمته في الاحتفال بافتتاح البنك العقاري بنيالا عميقة وطموحة، وإن لم تغب عبارات العتاب للصحافة التي يرى أنها كثيراً ما تظلمه، مشيراً لبعض ما ورد فيها، وقد ركز خلال زيارتنا على أن يمنحنا الفرصة لزيارة المواقع التي أثير حولها حديث في الصحافة، كما تحدث الوزير د. غلام الدين عثمان حديثاً مكشوفاً حول قضايا الإسكان في السودان مبدياً أسفه للتجاهل الذي لاقاه الإسكان في العهود السابقة، وقال إن الخرطوم بها 12% فقط سكن صالح، وفقا للمعايير العلمية وتطرق لتجارب كثيرة من الدول التي اهتمت بالإسكان ليجد حديثه التصفيق من الحضورالكبير الذي أسعده الانجاز الذي حققه الصندوق بإقامة مدينة في نيالا زرناها، فقال لي الزميل الأستاذ أحمد عمرابي إنها أجمل من مدينة الصحفيين بالخرطوم، وعلق الأستاذ عبد العظيم صالح مدير تحرير آخر لحظة تعليقاً كثيراً بروحه الحلوة على جودة البناء وتطور تقنيته، ثم صفق الحضور طويلاً للتعهدات بإنشاء ثلاث مدن أخرى خلال أعوام ونواصل غداً.