التلفزيون القومي وهو يقدم إحدى فلتات برامجه، وعبر برنامجه الشيق «كاميرا 50» أعادنا إلى خمسينيات القرن الماضي وتحديداً فترة الرئيس الراحل الفريق إبراهيم باشا عبود وهو يزور دارفور، ليس حاملاً صداقة الشعوب فقط، بل هو حامل هم المركز في التفقد والاطمئنان، وقتها كانت دارفور على قلب رجل واحد لا زرقة ولا عرب، ولم يكن الأمن النفسي مطلبهم، فلقد كانوا آمنين في حلهم وترحالهم، ولا الغذائي فقد كان يأتي منها فضل الزاد، فالثروات الظاهرة والباطنة ثروات دولة، لقد كان همهم التنمية وهم يتهاتفون لاستقبال جبل الحديد وقتها. «الكاميرا50» وهي إذ تقدم مثل هذه الدرر إنما تربط الجيل الحاضرالذي لم يسمع إلا اسم عبود، يردده العم والخال والوالد، ولم يروا من إنجازاته إلا القليل الشاهدة على عصره، والتي صارت من ركائز الاقتصاد السوداني في الصناعة والزراعة، دارفور وقتها هي التي تركها علي دينار وهي التي شهدت أرضها أضخم تجمع سوداني في معرض سبدو الشهير الذي تلاشت معه اللهجات والسحنات واختلط البقارة بجميع قبائلهم «رطانة كانوا أو أصحاب لسان عربي»، لقد كان أهل دارفور بلا استثناء تجمعهم النقارة ويستهويهم الطمبارة، وتستنجد بهم الجارة وضيوفهم عند الهجعة وكل المارة، هكذا كانت دارفور التي استعدتُ في ذاكرتي عنها تلك المشاهد، لقد كانت وجهة دارفور الحقيقية القبلة وليست القبيلة، حيث ما وليت فثم وجه اللّه، لقد كانت من المدارس الكبرى في الوطن الكبير «طبعاً اختفت المدارس الصغرى وجيل اليوم قد يظنها الروضة»، الداخل فيها أو الوافد إليها مُتَعلم ومن يغوص في بحارها المتعددة تتمدد جذوره فيها، فلا هو مفارق لها ولا هي. نيفٌ وخمسون عاماً من تلك الزيارة التاريخية لعبود وهو يصعد آمناً أعلى قمة في جبل مرة بمعية حكومته، وأكثر من أربعين عاماً على التطواف التاريخي لنميري باحثاً عن أماكن العطش ومحارباً له، هذه العقود من المعاناة لم تزحزح وطنية إنسان دارفور قيد أنملة، خمسة عقود شهدتها أجيال تفاوتت في درجات علمها وتداخلاتها غير أن وطنيتها لم تتبدل رغم عوامل التعرية الداخلية والخارجية التي هبت رياحها الضاغطة على السودان، وهذا ما فطنت إليه الإنقاذ، فبعض التصادم كان بالحوار وبعضه كان بالمال وما استعصى صار بالنبال، لقد اقتلعت الأعاصير التي هبت بعض جذور الوطنية، فالبعض هاجر غاضباً ومرتمياً في أحضان العمالة، والآخر آثر الهروب شرقاً «دار صباح» ففي الأرض متسع، وفئة آثرت أن تقّوض الأمن وهي تدري تماماً أنها لن تستطيع أن تحكم شعباً تنسم الحرية وامتلأت رئتاه بالحب لهذا السودان، وهذه الفئة جرّت دارفور الكبرى من أعلى عليين الأمان إلى سعير ونيران الفرقة والشتات. لقد بذلت الإنقاذ الثورة وحكوماتها المتعاقبة كل مجهود يعيد تماسك اللحمة الدارفورية سيرتها الأولى، غير أنها كل ما أفلحت في صنع تركيبة ترياق مضاد للسموم التي حُقنت بها أوصال الجسم الدارفوري يحرك الغرب الأوروبي الخلايا السرطانية التي أحكم صنع تركيبتها من أبناء دارفور، وهم من يقودونها الآن إلى مستنقع الفوضى الذي يقود إلى تدخلات أممية من خلال أو تحت عدة واجهات تخلو جميعها من إصلاح حال دارفور، إن حرب الموارد والسيطرة عليها هي ما يقود الهجمة الخارجية ولن تتم هذه السيطرة إلا باستمرارالمحرقة السودانية. لقد كان ذاك الزمن الجميل الذي اكتحلت فيه النفوس والعيون بالصفاء الوطني حكومة وشعباً، قد يعود ليس بكمه «فالكم اليوم أكثر» ولكن بكيفه «والكيف اليوم قبل الغد مداخله أغزر وأوفر» ومهما كانت تكلفة الكيف فهي ليست بالكثيرة أو الغالية على أمن الوطن والمواطن ولكن بأسبقيات سياسية وعسكرية مقنعة وقوية تسند بعضهما أو كليهما في حاجة لإسناد مجتمعي محلي «دارفوري» أو وطني سوداني جمعي. سياسياً بعض النخب الدارفورية تعاملها مع مجريات الأحداث صناعة أو تفاعلاً يشوبه الكثير من القصور في فهم الخطر المحدق، والتي فهمت ما يجري وارتبطت بأجندات الفكاك منها ليس سهلاً، وهي على قاعدة من أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل، وبعض النخب السياسية في المركز أيضاً نظرتهم للأمر رغم ما يجري لا يتعدى فرقعة أو زوبعة، ورغم تعدد المبادرات وتنقل الملفات المتعددة من يد لأخرى ومن فهم لآخر يضيع الوقت وتتسرب دارفور وهذا ما يقودنا إلى تذكير النخب السياسية بضرورة إعمال الفن السياسي في إزالة البساط من تحت أرجل الحركات التي تخطط لها جهات أخرى. من السياسة أيضاً تفعيل الإدارة الأهلية الجادة خاصة في مناطق النزاعات الساخنة ومنحها سلطات في حدود القانون ويكون درعاً لها «مش عمدة خالي أطيان». من السياسة وفنها إنزال التفاهمات، الاتفاقيات التي أُبرمت على أرض الواقع وإبعاد تلك النظرات ذات الطابع التكتيكي المرحلي الذي قاد إلى تعقيدات فك طلاسمها أدخل الإقليم والدولة في مواقف لا تحسد عليها في المحافل الدولية، إن من يبتغي العسل لا بد له التعرض للسعات النحل وفي اللسع أيضاً قد يكون الشفاء ومنها جبر الضرر، ورد المظالم وتنفيذ ما أتفق عليها من خطوات للتنمية في كل المجالات خاصة بعد التوقيع على اتفاقيات الدوحة المتعددة الفئات، الموحدة الأهداف الظاهرة والباطنة ما لم تثبت الأيام خلاف ذلك، وهذه ليست نظرة تشاؤمية بقدر ما هي ربط أحداث بمعطيات في الساحتين الإقليمية والدولية وما يجري في الداخل. من السياسات الفاعلة والجادة إعادة بناء أو ردم الهوة بين المكونات المختلفة والتي حدثت بسبب التقلبات في المواقف السياسية الحزبية أو التحالفات القبلية وموقف المركز وحكومات الولايات من جهة والسلطة الإقليمية من جهة أخرى. ميدانياً في الساحتين العسكرية والأمنية، وبما أن السلام يجب أن تحرسه القوة بعد فرضه سياسياً أو عسكرياً، بالإضافة إلى ما هو كائن هناك من قوات، فالضرورة تقتضي إعادة فرض السيطرة والهيبة للقوات المسلحة «ومتطلباتها معلومة» لتقوم بمعية القوات الأمنية بتأمين الطرق والمدن والحدود والحد من نشاط الحركات المسلحة، بل وتدميرها. مواصلة البحث والتجميع لقطع السلاح أياً كانت من أيدي المستحوذين عليها ما لم تقتضِ الضرورة خلاف ذلك، ولكن تحت إشراف وسيطرة القوات. أن تخضع قوات حرس الحدود للرقابة الصارمة من قِبَل قياداتها وتتحلى بالانضباط بما يحفظ للقوات المسلحة وجهها وسمعتها مع تطعيم هذه القوات بجرعات من القانون الدولي الإنساني الذي كفل للنازح واللاجيء حقوق وواجبات يجهلها أو يتغافل عنها الكثيرون من منتسبي هذه القوات. إن إطفاء الفتنة الدارفورية رغم استفحالها قد لا يكون بالنار التي وقودها الإنسان السوداني «وهي قد فُرِضت»، بل قد تتعدد وسائل الإطفاء، فليكن أصبعنا على الزناد ولنعطِ بعض طرق الحل المفتوحة مساحة في الصدور والقلوب، وقتها نقول فبمثلما أيقظ الدهر بيننا الفتن، فلربما صدح منادي السلام قائلاً: سلمت لنا أيها الوطن. شكراً للتلفزيون القومي على نفضه الغبار وإعادة ذاكرة الأمة إلى ذلك الزمن البسيط الجميل والشيء بالشيء يذكر.