٭ السكرتير الإداري السير جيمس روبرتسون في تقاريره عن الحكم الثنائي في السودان ذكر أنه كانت تضايقه مسألتان عندما جاء عام 1903م للخرطوم: البعوض أو القراص وعندما تهطل الأمطار كانت الشوارع تمتلئ بالمياه وتكثر فيها الحفر مما يجعل المشي فيها صعباً، هذا في عام 1903م أي قبل أكثر من مائة عام، واليوم يا عجائب الزمان.. من بعد مائة عام تعاني الخرطوم من نفس المسألتين اللتين ذكرهما سير روبرتسون، غير أن الحفر قد زادت بعد أن تناسلت وتكاثرت في جميع شوارع الخرطوم. فما من شارع أسفلت ٌُشُيِّد وعُبِّد حتى وجدت الحفر مستقرةً في داخله، ولو أحسنت الحفر صنعاً لسلمت نفسها لمهندسي الشوارع ليوزعونها بالعدل والقسط بعد فراغهم من رصف تلك الشوارع، ولكنها حفر «دغيلة» تداهم شوارعنا «غيلة» هي ومثيلاتها التي اختارت أن تتوزع في الشوارع الترابية، وأنت لا تعلم أين تضع قدمك داخل تلك المياه التي تحالفت مع الحفر في «شراكة ذكية» فربما حلت بتلك الحفر قطعة من زجاجة لئيمة ذات أطراف حادة فتشق أم قدمك شقة تجعلك تتذكر الدقائق الأولى لختانك. ٭ أما البعوض والقراص فقد إنتعش وفرهد كأن لم ينتعش ويفرهد من قبل، ففي زمن السير روبرتسون كان بعوض الإيديس Aedes الذي ينقل الحمى الصفراء وبعوض الكيوليكس Culex المتخصص في نقل ديدان الفلاريا التي تسبب داء الفيل هما وحدهما الموجودان في برك الخريف الطينية إذ أن بعوض الأنوفليس Anopheles الذي ينقل الملاريا بعوض فنجري ظريف نظيف لا يتكاثر في المياه الطينية الراكدة فكان ينتظر فصل الشتاء ليتكاثر في المياه الرائقة ولكنه هذه الأيام وجد أكياس البلاستيك المتشعبطة على رؤوس الأشجار الممتلئة بمياه الأمطار النظيفة فأخذ يتكاثر دون هوادة أو رحمة، وإنضم لتلك الأسراب المهاجمة مما جعل نومنا خزازاً بتاتاً ليس إلا. ٭ المواطن السوداني الآن ومن بعد مائة عام لازال يقع في الحفرة التي حفرها أخوه المجهول. ولازال يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وما في جسمه سنتمتر إلا وبه عضة بعوض ويموت كما تموت الحمير ولسان حاله يردد : حفري الجابت لي أزايا .. للناموس تعمل حماية تلم الموية بكل عناية والناموس ما بدور وصاية يمص دمي ويهرد كلايا والإغتراب أنا عندي غاية حكاية طويلة بدون نهاية وسألني أحد الإخوة في رسالة هاتفية: - ممكن تورينا يا أستاذ.. ليه البعوض دايماً «بنوني» لينا جنب راسنا؟ وأجدها فرصة مناسبة لأرد على الأخ : إنت عندك إضنين في راسك.. ولو كان عندك إضنين في كرعينك كنت سمعت البعوض بنوني في كرعينك.. والحكاية وما فيها ذكرتها ذات يوم فقلت في البدء ... كانت باعوضة ، تشرب من دم جميع الناس . ولكن الانسان اخترع لها مبيداً حشرياً قوياً نهاها بالضربة القاضية، ولكن الباعوضة لم تستكن لهذه الحرب الضارية ... جندت نفسها وأخرجت نوعاً من الباعوض لا ينفع فيه المبيد، بل وأخرجت نوعا قوياً يكفي اثنان لسحب البطانية والثالثة لامتصاص الدماء، ولذلك لا يجدي أن نبذل جهداً لمحاربتها. وعندما قابلت مسؤولاً صحياً يدخل في اختصاصه حرب الباعوض . وهو رجل فيلسوف وله فلسفة عظيمة فيما يتعلق بالباعوض وإبادته . فلسفته مبنية علي فلسفة وجودية تنادي بأن الانسان محكوم عليه بالباعوض فهو يقول : - شوف يا ابن العم أنت دلوقت موجود ولا غير موجود ؟ - قلت : طبعاً موجود ..... - قال : وعرفت كيف أنك موجود ... - قلت وانا اتحسس جسمي : أنا واقف دلوقت قدامك بلحمي ودمي - قال : برضو مش كفاية ... أنا أقول ليك ... الانسان لا يمكن يعرف هو موجود ولا لا الا إذا كان هناك حاجة تدل علي ذلك ... والحاجة دي هي الباعوضة ... تقوم تقرصك الباعوضة طوالي تشعر بأنك موجود ... نحنا ناس الصحة بننظر للموضوع بموضوعية . وقد زادني كلام المسؤول الصحي اقتناعاً بأن الباعوضة هي أسعد مخلوق في هذه الديار .