تسامح مستمر: رغم ما كان الأقباط يلاقون من اضطهادلات من الحكّام، فلقد كان هؤلاء الحكام أنفسهم كثيراً ما يميلون إلى الأقباط، ويحترمون حبهم لدينهم، وأخلاقهم الطيبة. ومن الأدلة على تسامح المعز والعزيز ثم الحاكم حين ثاب إلى رشدة أنه يوجد في الفترينة المسلسة بالجهة الشرقية في الخزانة حرف D بالمتحف ملف على ورق كتان ملصق على قماش تضمن انعامات لرهبان الدير هذا نصه:» عماراتكم ولا تطالبوا بحشد في حرب، ولا بخروج وإعزار كل راهب يخرج منكم إلى الضياع للتعيش فيها وقضاء حاجات من أراد منكم وألا تلتزموا بعمل يحمل النصر من الميرة وما يجري مجراها مكساً ولا غرماً قل أول وأن تحفظوا مالكم من زرع وغلة وعوامل من مباني النواحي، وألا يعترض ما يخلفه بموت من رهبانكم خارجاً دياراتكم في حالة تردده إلى الريف وغيره لتصرف في مآربكم من كل شيء يملكه ليكون جميعه عائداً على إخوته في رهبانيته دون كل قريب له و نسيت، فإن الإمام المعز لدين الله والإمام العزيز بالله والإمام الحاكم بأمر الله قدس الله أرواحهم تقدموا بكتب سجلات بأمضاء ذلك كله لكم وسألتهم كتب سجل بتجديدها كانت أمضيته لكم الأئمة وتوكيد مادعته اكافئكم من الحرمة وحفظ مالكم من هذه الموات والأزمة، فأمر أمير المؤمنين بكتابة هذا السجل المنشور يحملكم على مقتضى النص المذكور، وموجب الشرع المنظور، وأقراره في أيديكم حجة بذلك باقية على مر الأيام والدهور حتى لايعترضكم معترض بما يزيل هذا الإنعام عن حده أو يتناول بما يصرفه عن جهته وقصده، والذنب عنكم لمن قرأه أو قري عليه من الأولياء والولاة والمتصرفين في الأموال والجباة، وسائر عبيد الدولة وخدمها على اختلاف طبقاتهم وتراجع درجاتهم، فليعلمه من أمير المؤمنين ورسمه ليعمل عليه وبحسبه إن شاء ....» - هناك قطعة من النسيج عليها كتابة كوفيه وزخارف مسيحية- صناعة الفيوم القرن العاشر الميلادى- محفوظة بدار الآثار العربية رقم السجل 9052. - نشرت مع مقال للدكتور زكي محمد حسن عنوانه « بعض التأثيرات القبطية في الفنون الإسلامية» في مجلة الآثار القبطية -المجلد الثالث- القاهرة سنة 1937. - على أن التأثيرات القبطية امتدت إلى أروربا فيقول المستشرق الفرنسي جاستون فييت مانصه:«لقد انتسبت اوروبا إلى مدرسة الحضارة الشرقية وبذلك تطور الإنتاج في الغرب فمن الشرق تعلم أجدادنا نسج أقمشة كالساتان والقطيفة والأقمشة المزركشة بالذهب والفضة والأقمشة الخفيفة كالموسلين والشيفون والتافتاه، مع استعمال حجر الشب (الشبة) لتثبيت الألوان... ومن الشرق أيضاً تعلم الغرب صناعة الورق والحلوى والشربات، ومن المنبع ذاته وردت إلينا انواع معينة من النبات التي أدت زراعتها إلى قيام صناعات جديدة : كالكتان والتيل» على أن الحاكم- رغم عودته إلى جادة الحق في معاملة القبط- ظل يحيط نفسه بالخفاء والغموض الذي كان شيمة آله جميعاً فاستمر يخرج ليلاً بمفرده على ظهر حماره ويصعد فوق جبل المقطم والظلام مخيم . وفي هذا التجول الليلي، كان يلبس ثوباً ابيض وعمامة بيضاء، ويكتفي بهذه البساطة المتناهية في الملبس، فلا يتحلى يجوهرة واحدة سواء في ثوبه أو في عمامته، وكان قد بنى مرصداً للنجوم في أعلى هذا الجبل ليقضي فيه الساعات الطويلة . وكانت إحدى وسائله لإرهاب شعبه إدعاؤه بعلاقة الغيب والرؤيا في الظلام، حتى لقد أعتقد بعض الناس أنه يستطيع أن يستشف الخفايا . وكان خروجه ليلاً بمفرده لا يحيط به حرس ولا يمشي خلفه تابع، لأن الخفاء الذي أشاعه عن نفسه وقوته الجسمية الخارقة وعدم تورعه عن الفتك بأي شخص- كل هذه الصفات أحاطته بسياج من الرهبة وكانت بمثابة حرس ساهر عليه . ثم تجاوز الحدود وادعى الألوهة . وتثبيتاً لهذا الأدعاء في القلوب أعلن حرمان ابنه الظاهر من العرش وأوصى بتوليه أحد المشايعين له من بعده كذلك ظل يبطش بالمسلمين رغم مهادنته القبط، وزاد على هذا كله تعريضه بشرف أخته التي قضت حياتها بغير زواج والتي كانت على جانب كبير من الذكاء والدهاء، فنقمت عليه وتآمرت ضده مع بعض المتبرمين به من حرس القصر . فحدث بعد أن عرض الحاكم بشرف أخته بأيام قليلة- أن خرج ليلاً كالمعتاد ولم يعد، ولم يعثر أحد على جثته ولا حتى على بقية منها، مع أن حماره وجد مثخناً بالجراح، ظل أختفاءه سراً مكتوماً، فادعى مشايعوه أنه اختفى مؤقتاً وأنه سيعود إلى الظهور يوماً ما، بينما أشاع غيرهم أنه قصد إلى جبل الدروز حيث نادى بدين جديد . هناك تقليد قبطي يقول إنه ذهب إلى دير شهران، حيث تنصر وقضى بقية حياته في هدوء و إنزواء، وقد تولت أخته الملك سنتين ثم سلمت مقاليده للأمير الظاهر الذي كان قد حرمه أبوه.