من الحكايات التي كانت تحكي حولهم أن أحد أبناء الأقباط حرموه من الميراث لأنه غيَّر دينه إلى الإسلام، فقام المسلمون من أهل السوق بتعويضه!! ذكرنا في حلقة سابقة بعض القصص والحكايات التي كانت تروى حول المعابد التاريخية التي كانت موجودة حول قرانا، هذه الحكايات اتفقت جميعها على شيء واحد هو أن هذه الخرابات وراءها كنوز، توالت الروايات عن القيمة التاريخية لهذه الأطلال، ولم نكن نفهم كل ما يقال سوى أن هذه الأطلال بقايا كنائس وأديرة قبطية، وذكرنا أقباطاً كانوا معروفين تماماً في وادي حلفا، أمثال: جوزيف- يغمور- قيشر. *** من الحكايات التي كانت تحكي حولهم أن أحد أبناء الأقباط حرموه من الميراث لأنه غيَّر دينه إلى الإسلام، فقام المسلمون من أهل السوق بتعويضه!! هؤلاء النفر كانوا يسيطرون على الأسواق في وادي حلفا، من منا لا يعرف دكان (الخواجة) وليس هناك من لم تبهره أقمشته ومخازنه، كان عددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولكنهم كانوا عماد الحضارة الهائمة في الأسواق، أسماؤهم كانت عصية على اللسان لهذا كانوا يطلقون عليهم (الخواجات). *** مصطلح الخواجة لم يكن يعني معنىً عرقياً، وربما وجدت بشرة بيضاء بين هذه الأحياء من أبناء حلفا تفوق في بياضها بشرة الخواجة نفسه.. ولكن كانت كلمة خواجة تعني الصفوة المتحضرة، وهي في الأصل ليست كلمة أوربية إنما فارسية شرقية تعني المعلم، والأقباط هم أول من تسمى بها، وفي اللغة النوبية مصطلح (خوجي) ويعني (المعلم) ومنه خرج اسم خوجلي وهو اسم معروف فقط في الشمال النوبي. كان المجتمع منبهراً بهؤلاء الخواجات المحليين في الأسواق، وسنوات الرخاء الاقتصادي ارتبطت بهم، بل والقيم الأخلاقية التي عرفوا بها كالصدق والأمانة والانضباط! ومعلوم أن لون السوق لم يتغير إلى (الأسود)إلا بغيابهم ! من احتار منا في أمره كان يهرب لغروره الثقافي واعتبرهم مجرد (كفرة) يجب الحذر منهم.. أما أكثرنا فقد حمل في وعيه أسئلة حبلى بالمآزق.. كيف ينسبونهم إلى الأجنبي المستعمر وهذه الأطلال القديمة منسوبة إليهم، وهي في تاريخ المكان ربما أقدم من منازلنا.. هل يمكن تصنيفهم خارج مجتمعنا لمجرد أنهم حشروا أنفسهم في أزقة ضيقة في مجتمعات المدينة المنعزلة؟ أما أكثر الناس صدقاً مع النفس، كان أولئك القادمون من مجتمع مصر، فقد كانوا يخدمون الباشوات والخواجات واكتسبوا شيئاً من ثقافة المقارنة.. يرددون أولاً مقولة الشيخ محمد عبده الذي عاد من أوربا منبهراً وقال (وجدت في أوربا إسلاماً ولم أجد مسلمين) !! ثم يتساءلون هل هؤلاء (الكفار) في نظمهم أقرب إلى النموذج الإسلامي الذي يروج له دعاتنا أكثر منا؟!! هناك فئة كانت منبهرة بالخواجات إلى حد احتقار الذات، وهناك فئة اعتبرت أن الثقافة الإسلامية مجربة كحضارة عالمية حكمت العالم، والعجز الإسلامي مؤقت ولمن أراد دليلاً أمامه النموذج التاريخي.. أما الغالبية العظمى فقد عطلت عقولها وابتلعت (الحرج الثقافي) وأراحت نفسها وآثرت أن تبقى في (ضل حيطة) وكفى!! وجاءت السبعينيات وهرب الخواجات، ومن بقي منهم انزوى في أركان الخرطوم المظلمة، ودخلت تلك الحضارة في طي النسيان، وانطفأت التساؤلات بانسحاب الأجيال التي كانت شاهدة على العصر، ومرت عقود من الزمان حتى جاءت الألفية الجديدة وظهر معها (أبونا) فيلو ثاوس في ثورة عارمة من ركام النسيان يذكرنا بالتاريخ القديم للأقباط في السودان: في الحقبة النوبية، ثم في الوظائف والأسواق والحواري، وها نحن نتذكر معه. *** بالمثابرة على خطاب إعلامي وصبر يفل الصخر، استطاع (أبونا) فيلوثاوس أن يحرك في وجدان البعض ما يخدم مشروعه وقومه. يسجل رسالة من باحث من مدينة كريمة (شمال السودان) وهو الأستاذ عوض عبيد الله يسجل فيها وفاءه للجميل الذي أسداه الأقباط إلى جيل كامل في كريمة، يعترف بفضل الأقباط ويعتبر أن سوق كريمة التي أنشأها الإنجليز وأدارها الأقباط كانت فيها المقومات الأساسية لحياة الناس، يذكر أمثال: عزيز غبريال (شركة شل)، شغال (شركة باتا)، سامي لبيب (شركة سنجر)، أما التجار العموميين فيذكر منهم أولاد شقير، جورج حلفا، قيصر يوسف، جاد يسخرون (هذا الأخير مؤسس النادي العام سنة 1944م ومدرسة الأقباط سنة 1942م) ميلاد سمعان، باسيلي شقير، سلامة مليكة، خيري ، جوزيف بشير، أبادير غبريال، سير جوليس، إبراهيم بيباوي، مدني (صاحب أول طابونة بمدينة كريمة)». *** وفي اعلام (أبونا ) أقباط القضارف وهم (أول من ابتكر ونظم زراعة السمسم والمحاصيل النقدية بمساحات واسعة «أمثال دانيال رفائيل, وجريس غير بال، هذا الأخير» سمي شارع في مدينة القضارف باسمه وهو مكتشف منطقة سمسم). ومن غرائب التخطيط المتكامل والنظرة الاستراتيجية في العمل الحقلي والاستثماري أن يقيم أحد اقباط القضارف وهو أميل ميخائيل معسكراً مريحاً لعمال الزراعة في المشاريع الخلوية فيه الماء والغذاء، ولم يكتف بذلك بل كان يقدم لهم خدمات ثقافية كجهاز تلفزيون يعمل بالجاز لم يكن متوفراً حتى في المدينة آنذاك!! نواصل في الحلقة القادمة عن دور الأقباط في المدن السودانية.