هناك في مرتع الصبا غرب (وادي حلفا)، في النصف الأول من الستينيات كنا نلعب بين أطلال قصر قديم، وحولنا دائماً أغنام سوداء بعضها باركة وأخرى تحك ظهورها على الحوائط العالية. ما كنا نمر على حي (أريان وبريس) دون أن نطل على هذه الخرابات التي تبدو عليها آثار عز قديم، وكانت قائمة بعيدة عن مساكننا.. ورغم وعينا الغض بقيت فينا تساؤلات عن سر هذه الخرابات، لم تكن هناك إجابات من كبار السن سوى: - قمنا ولقيناها كده! المنطقة تعج بمثل هذه البنايات، ولا أحد يدعي حق عليها، أين ذهب أهلها؟ هربوا إلى مكان بعيد أم ذابوا بيننا وفي دماء أهلنا شيء من هذا. - لم يستيقظ الوعي المحلي على الحقائق إلا بعد أن انطلقت شائعات وحكايات مع ظهور وفود من (الخواجات)، هذه الوفود طفقت تحفر بين الجبال ووسط الأحياء. - امرأة عجوزة في قرية فرس المجاورة هبطت عليها ليلة القدر، جاءها الخواجات وأمطروها أموالاً، وهي لا تدري ماذا تفعل بها، في المكان الذي كانت أغنامها تقيم وفي بطن الزريبة وجد الخواجات كنيسة ضخمة، يقولون إنها غيرت مجرى التاريخ، هذه الكنيسة الضخمة التي أكتشفت في قرية (فرس) على يد بعثة بولندية عام 1961م، أحدثت دوياً هائلاً لدى المؤرخين، نتيجة لظهور هذه الكنيسة حدث تعديل في تاريخ المسيحية في السودان، حيث أن هذه المدونات أظهرت أن الديانة المسيحية الجديدة دخلت قبل قرن كامل مما كان يعتقد، والحدث الآخر أنها وثقت تاريخ الكنيسة نفسها، ومعلوم أن الأقباط أضاعوا الكثير من تاريخهم بعدم الاهتمام بالتوثيق، وهناك إشارة أخرى لها أهميتها، رغم إمكانية الخلاف حولها وهي المشاركة النوبية في إدارة الكنيسة، فهناك أساقفة حملت اللوحات صورهم ببشرتهم السوداء، مدونات هذه الكنيسة وصفها (صبحي داوؤد اسكندر) مفتش آثار الشمالية بالآتي :- مجموعة هائلة من صور الحائط في الكتدرائية، في إحدى غرف هذه الكتدرائية وجدوا صورة ضخمة للسيد المسيح وعلى جانبيه ملاكان يركعان له، وعلى الجانب الأيسر من الصورة، مكتوبة باللغتين الإغريقية والقبطية قائمة تضم ثمانية وعشرين أسقفاً لمدينة فرس، يصف هذه الاكتشافات بكنوز عظيمة القيمة أضافها السودان الى تاريخه ! هذه الكنوز التي كانت مدفونة حتى بداية الستينيات، هل كانت غائبة تماماً عن وعي الأهالي؟ لا نستطيع القول إن الأمر كان هكذا تماماً، في نسيج الثقافة المحلية كانت هناك بقايا (علم) تحمل إشارات ضئيلة، كانت ترد تلك الإشارات ممزوجة في أدبيات التراث الثقافي بثقافات مكتسبة من الحقب الإسلامية المتأخرة، من هذه الحكايات ما كان يقال عن ملك نصراني عاش في (فرس)، كان يقال له (كيكلان بن نيوكل) كان يلقبونه ب (أبي الميه جد الألف) يقول المصدر: إذا أراد سكان فرس أن يسبوا أحداً، فانهم كانوا يدعونه ب «ابن كيكلان» وهذا يعني أنه خرج من ملة الإسلام!! إلى عهداً قريب عاصرنا من أهل (قريتنا) من كان يسمى سكان قرية فرس بأبناء كيكلان، ولم يكن بذلك يقصد شيئاً سوى هذا الاسم التاريخي الطريف، يبدو بوضوح من لقب (أبو المية جد الألف) أنهم كانوا يكنون لهذا الملك النصراني الإحترام والتبجيل، وإذا كان هذا اللقب صحيحاً لن نجد في أهل قريتنا من لا صلة له بأرحام هذا الرجل! ومثل هذا الكلام يمكن أن نقوله أيضاً في شهادة الرحالة السويسري (جون لويس بوركهارد) الذي مر ببلاد النوبة عام 1813م، قبل دخول الأتراك بسبع سنوات. يقول إن قبيلة من (أبناء النصاري) عادت الى (سره غرب)، من منطقة جنوبأسوان، بقاياهم موجودة حتي الآن طبقاً لروايات التراث الشفهي. في تخريج الأسماء هناك من ينسبهم للكتدرائيين، ربما الحالة الأمنية هي التي دفعتهم ليهاجروا أو العلاقة التاريخية هي سبب عودتهم واختيارهم سره غرب.. هكذا يمكن أن نستخلص أن الثقافة لم تكن غائبة في كشف هذه العلاقة التاريخية !! *** قصص وحكايات كانت تروى، إتفقت جميعها على شيء واحد هو أن هذه الخرابات وراءها كنوز، توالت الروايات عن القيمة التاريخية لهذه الأطلال، ولم نكن نفهم كل ما يقال سوى أن هذه الأطلال بقايا كنائس وأديرة قبطية، الأقباط كانوا معروفين تماماً في وادي حلفا، أمثال: جوزيف- يغمور- قيشر. من الحكايات التي كانت تحكي حولهم أن أحد أبناء الأقباط حرموه من الميراث لأنه غيَّر دينه إلى الإسلام، فقام المسلمون من أهل السوق بتعويضه!! هؤلاء النفر كانوا يسيطرون على الأسواق في وادي حلفا. من منا لا يعرف دكان (الخواجة) وليس هناك من لم تبهره أقمشته ومخازنه. كان عددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ولكنهم كانوا عماد الحضارة الهائمة في الأسواق، أسماؤهم كانت عصية على اللسان لهذا كانوا يطلقون عليهم (الخواجات). **** نواصل في الحلقة عن معنى مصطلح (خواجة) وعن نماذج من أقباط المدن السودانية..