واضح جداً من مخرجات المؤتمر الصحفي للأخ الفريق أول بكري النائب الأول لرئيس الجمهورية أن السودان مقبل على تغييرات حقيقية بعيدة- (كما يتصور البعض)- من المناورات وتكتيك كسب الوقت وامتصاص الغضب.. وصعوبة كسب الوقت لسببين: السبب الأول أن الوقت ليس في الصالح، لأنه في أية حالة تكتيك مرحلي مؤقت لتفادي الوصول الى نقطة حرجة- الآن النقطة الحرجة هي المتحركة نحو النظام ولذلك كسب الوقت لن يؤثر في تحركها نحو الهدف، والنقطة الحرجة المتحركة متمثلة في ضغوط دولية غير مسبوقة، إضافة الى ململة داخلية من الغالبية العظمى من المواطنين بسبب المعاناة في مقابلة المتطلبات الرئيسية للعيش الكريم والهم والعبء الثقيل على أرباب الأسر في توفير متطلبات أفراد أسرهم.. والسبب الثاني أن القيادة العليا أدركت أن الآن في السودان توجد سلطة ولكن لا توجد دولة، والدولة تعني المؤسسات التنفيذية المتناغمة مع سياسات النظام الحاكم، والبعيدة كل البعد عن التأثير الحزبي وهي مؤسسة الخدمة المدنية من الموظف حتى الوكيل الدائم، ومؤسسة الشرطة بكل فروعها.. والاثنتان تعملان تحت شعار إدارة وحماية الوضع الراهن بموجب قوانين مستمدة من دستور واجب الالتزام الحرفي بها غض النظر عن السلطة الحاكمة، وهذا سر نجاح الديمقراطية في العالم الأول، حكى لي أحد الثوار الاثيوبيين بأنهم عندما استولوا على السلطة من الرئيس منقستو عام 1990م اكتشفوا أن في اثيوبيا كانت هناك سلطة ولم يجدوا دولة.. الدولة المثالية هي التي بها خدمة مدنية تبدع في انضباط وشفافية في إدارة شؤون المواطنين، وتوفر لهم السلع الضرورية والخدمات الأساسية والتعليم والصحة بتكلفة في مقدور الغالبية العظمى من المواطنين، وهذا هو التعريف العلمي الحديث للرفاهية Affluence وليست الرفاهية التي يحسبها الكثيرون بأنها المنازل الضخمة، والعربات الفارهة، والصرف البذخي، وهذه تسمى الثراء الفاحش Opulence والرفاهية المادية تلك تكتمل بإشاعة الحرية والعدل والمساواة، ما يؤكد جدية طرح السيد النائب الأول في إصلاح الدولة بإحداث تغييرات كبيرة وجذرية مايلي: أولاً: التزام السيد النائب الأول بالموعد المضروب لبداية المؤتمر وفيه إعلاء لقيمة الزمن وأهميته. ثانياً: الاعتراف بوجود خلل في جهاز الدولة وذلك من شعار الطرح وهو إصلاح الدولة. ثالثاً: الاعتراف بمعاناة الموطنين في الحصول على السلع والخدمات بأسعار في مقدور الغالبية العظمى. رابعاً: التأمين على وجوب الفصل بين الحزب وإدارة الدولة التنفيذية، وهذا يؤكده حديثه عن إعادة قوة وصلاحيات وكيل الوزارة الذي يمثل قمة الهرم الإداري التنفيذي في إدارة كل وزارة وتأكيده أن هذا المنصب فني مهني وجزء من هيكل الخدمة المدنية الذي يتبوأه الشخص عبر التدرج الوظيفي والمؤهلات المطلوبة والخبرة، وهو بذلك مفتوح لكل المواطنين دون النظر الى انتمائهم الحزبي سواء كان من الحزب الحاكم أو الأحزاب الموالية له، وترك المنصب الوزاري للحزب أو الأحزاب الموالية ومهمة الوزير حال إعادة السلطة الإدارية للوكيل هي وضع السياسات العامة المتوافقة مع سياسة الحزب دون التدخل في تفاصيل التنفيذ مثل تكوين اللجان، والعطاءات الحكومية وفرزها، وتحديد مناطق الخدمات المناسبة بصورة مؤسسية علمية، ومحاسبة العاملين معه ومراجعتهم ومحاسبتهم وفق لوائح الخدمة المدنية المعلومة، علماً بأن الخدمة المدنية في السودان بعد خروج الاستعمار وحتى قبل ثورة اكتوبر 1964م كانت مضرب المثل وكانت توصف بأنها أفضل خدمة مدنية في افريقيا والشرق الأوسط. خامساً: ومهم جداً وله أكثر من إشارة ودلالة هو تصريحه بفصل النائب العام، وبالتالي كل وكلاء النيابة من وزارة العدل، وهو اجراء سليم بإعادة النظرية العدلية الى وضعها السليم، إذ أن النائب العام هو حلقة من حلقات العدالة التي تبدأ بالشرطة وانتهاء بالقضاء مروراً بالنيابة العامة كحلقة وصل أساسية بين القضاء والشرطة، وبهذا المفهوم النائب العام ليس جزءاً من السلطة السياسية، ويجب ألا يكون سياسياً ولا عضواً في أي حزب، بل هو جهة محايدة قانونية مثل رئيس القضاء، وتبقى وزارة العدل كمستشار للحكومة معني بصياغة القوانين ومشاريع القوانين، وفي دول كثيرة لا توجد وزارة عدل وقد كان ذلك سائداً في السودان حتى العام 1977م ومن أبرز من شغل منصب النائب العام بكفاءة ونزاهة واقتدار حتى العام 1989م الأساتذة زكي مصطفى، وزكي عبد الرحمن، وعبد المحمود صالح، والنائب العام بدرجة وزير.. هذا الاجراء يعتبر تغييراً إيجابياً نحو تعميق مفهوم استقلال القضاء وإعمال العدل والمساواة إذ أن كثيراً ما تكون الحكومة احد أطراف النزاع ولا يستقيم عقلاً أن يكون وزير العدل الخصم والحكم، وهو جزء من الحكومة وهذا التوجه يقوي من مصداقية الحكومة في محاربة الفساد. عليه نأمل أن يتم تعيين النائب العام من بين أعضاء الهيئة القضائية وفق التدرج الوظيفي والخبرة في الجهاز القضائي والكفاءة والنزاهة الشخصية، بعيداً كل البعد عن الولاء الحزبي أو العقائدي. مثلما تم اختيار رئيس القضاء الحالي عالي الكفاءة والخبرة والعلم والنزاهة مولانا د. حيدر أحمد دفع الله الذي ولد ونشأ وتربى في أسرة محترمة من عامة الشعب البسيط، ولم تعرف له أية ميول حزبية أو عقائدية أما إذا تم اختيار النائب العام بالمفهوم الجديد بنظريات التمكين نكون (كأنا يا زيد لا رحنا ولا جئنا)، وكأننا لم نفصل النائب العام من وزير العدل. لذلك نؤيد بشدة كل ما جاء به الأخ النائب الأول ونعتبر ذلك خطوة جادة مطلوبة في هذا الوقت في اتجاه إصلاح الدولة، وجرعة كبيرة لإعادة الثقة في النظام من كثير من المشفقين والمتفائلين بقدوم فجر جديد لربيع طال انتظاره. ما لم يذكره الأخ النائب الأول هو إعادة هيكلة الدولة، وإحداث ثورة حقيقية بإعادة النظر جذرياً في الهيكلة الحالية التي أفرزت كل مشاكل السودان الحالية والمتمثلة في العودة الى الصراعات القبلية البغيضة، والتعيينات الدستورية والتنفيذية بمعيار الموازنات خصماً على الكفاءة والخبرة والعلم، إضافة الى الصرف الهائل على الهيكل المترهل الحالي. عليه نعيد مطالبنا التي كررناها كثيراً بالعودة الى الأقاليم القديمة الكبرى، وتعديل الولايات الى محافظات على رأس كل محافظة إداري مؤهل من الكشف العام الحكومي والخدمة العامة، وبناء هيكل هرمي- كما في الرسم المرفق- والذي به ثمانية أقاليم فقط هي الخرطوم، ودارفور، وكردفان، وجنوب كردفان، والشمالية، والأوسط، والشرق، والنيل الأزرق.. كل اقليم به حاكم وحكومة ومجلس تشريعي، ثم تأتي في المستوى الثاني عشرون محافظة هي: الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وشرق النيل، وجبل الأولياء، وشمال دارفور، وجنوب دارفور، وشرق دارفور، وغرب دارفور، ووسط دارفور، وشمال كردفان، وغرب كردفان، والجزيرة، والنيل الأبيض، وسنار، والقضارف، وكسلا، والبحر الأحمر، ونهر النيل، والشمالية، وتأتي في المستوى الثالث 80 محلية.. ثم المستوى الرابع اللجان الشعبية وعددها حوالي 8000 في كل السودان، والتي منها يقوم حوالي ألف مجلس محلي لتكتمل صورة الهيكل المثالية. الشيء الثاني الذي لم يذكره السيد النائب الأول هو تحديد خط السودان في العلاقات الخارجية، إذ على المستوى العالمي خطان خط المعسكر الغربي بقيادة أمريكا وأوربا، والخط الآخر الشرقي بقيادة روسيا والصين، وعلى المستوى الاقليمي خط بقيادة السعودية، وخط ثاني بقيادة ايران.. يجب أن نحدد مسارنا بوضوح واستدامة حتى نخرج من المنطقة الرمادية التي لم نجن منها أي فائدة، أرى أن نختار مسار الخط الغربي مع خط السعودية فهو الأقرب الى حلحلة مشاكل السودان خاصة الاقتصادية. الشيء الثالث الذي لم يذكره النائب الأول موقف السودان من الحروب الدائرة في دولة الجنوب، واعتراف الغرب بأن السودان سيكون العنصر الفاعل في انتشال دولة الجنوب من الفشل والدمار، وفي هذا أرى قبول فكرة إعادة السودان موحداً في نظامين مثلما كان في الفترة الانتقالية لكن دون وجود عناصر من أي من النظامين في كل من السودان أو جنوب السودان- أي حكم كنفدرالي فيه فقط الوحدة في الجيش والسياسة الخارجية. والله الموفق