إختطف الموت من بين أيدينا الراحل الكاتب النابه مكي أبو قرجة وقد رحل عن دنيانا بعد صراع مع المرض اللعين الذي ظل ينهش في جسده ولكنه لم يأخذ من ألق روحه الفتية الوثابة، عرفت الراحل عرفت في ستينات القرن الماضي، كان السودان في أزهى عصوره والخرطوم صبية في المدائن، درج الراحل على زيارتنا في الجامعة من حين لأخر حيث كان يزور أصدقائه علي عبدالقيوم رحمه الله وإسحق القرشي وطه النعمان وحسين حميدة وهؤلاء جميعاً ونحن معهم إجتمعنا على الشغف بالأدب والشعر خاصة، كان مكي مولع بالشعر خاصة شعر رواد الحداثة من لدن جيلي عبدالرحمن وتاج السر الحسن والفيتوري ومحمد المكي إبراهيم وصلاح أحمد إبراهيم والنور أبكر وغيرهم، وكان يحفظ ديوان الشرف الجديدة لمحمد المكي إبراهيم عن ظهر قلب هذا إلى جانب معرفته العميقة بأساطين الشعر العربي حديثه وقديمه، وألتقيته مرة أخرى في مدينة كوستي بعد عقد من الزمان وكالعهد به فتح لنا قلبه وداره وكان بحق ريحانة المجالس وكانت مجتمعات كوستي ولياليها تزدهي بأنسه، ثم سافر إلى الخليج ليعمل صحافياً لأكثر من عقدين من الزمان وهناك بزغ نجمه في الكتابة بالصحافة وغيرها ومرة أخرى إلتقيته في أبوظبي وظل مكي هو مكي الكريم أريحي الكف والوجه والباسم أبداً وفي الخليج أصدر أول مؤلفاته وهو أصوات في الثقافة السودانية وهو كتاب موسوعي يتناول الكثير من الموضوعات في مختلف مناحي الحياة وقد صدر الكتاب في طبعته الأولى وهو أصلاً مقالات نشرته صحيفة الإتحاد منذ بداية الألفية الجديدة وأعيد نشر المقالات في بعض الصحف السودانية، وسنلاحظ في هذا الكتاب ولع مكي بالثقافة السودانية وحرصه على التنقيب في مظانها وتقرأ من بين الموضوعات التي عالجها بإسلوبه الصحفي الرشيق مقالات عن إحسان عباس وإبن عمر التونسي ويوسف مخائيل والتجاني الماحي على سبيل المثال وتلمس كذلك شغف الراحل بالشعر إذ أفرد العديد من المقالات لأولئك الشعراء الذين أحبهم وحفظ دواوينهم في ذاكرته الثاقبة مثل صلاح أحمد إبراهيم ومحمد المهدي المجذوب ومحمد المكي إبراهيم وشابو وكمال الجزولي، كما تلمس في الكتاب شغف الراحل بتاريخ السودان خاصة في جانبه الثقافي والإجتماعي ونجده يكتب عن أم درمان وعطبرة وثورة 24 ومدينة الخرطوم في القرن التاسع عشر وهكذا. وقد أعاد الراحل طباعة الكتاب في طبعة ثانية منقحة وأنيقة صدرت عن إحدى دور النشر المصرية وتواصلت بعد ذلك مؤلفات الراحل وبلغت في مجموعها أربعة هي اليهود في السودان وقد صدر في طبعتين والأمل والقنوط في بلاد الأرنووط و صولة بن عثمان في ملاحم الثورة المهدية إلى جانب كتابه الذي أشرنا له أصوات في الثقافة السودانية ومن أسف لم أتوفر على نسخة من مؤلفه الأمل والقنوط في بلاد الأرنووط أما كتابه صولة بن عثمان فهو بلا جدال من أهم المؤلفات السودانية التي صدرت مؤخراً ذلك أن الكتاب الصادر عن دار صفصافة عام 2015م، كتاب على درجة من الاهمية إذ يدرس فيه مؤلفه جانباً من جوانب الثورة المهدية وهو جانب مساهمة إحدى الأسر المعروفة في منطقة النيل الأبيض، في منطقة القطينة على وجه الخصوص، وهي أسرة المناضل المهدوي الجسور أبو قرجة، وقد توفر الباحث على الكثير من المصادر المكتوبة والشفاهية إلى جانب رجوعه إلى العديد من الوثائق، وقد إستفاد الكاتب من إنتمائه لهذه الأسرة إذ هو من جيل الاحفاد أي الجيل الرابع للبطل أبو قرجة، لكن الكاتب على الرغم من هذا الإنتماء إلا أنه كان إلى حد كبير على قدر من الموضوعية والحيدة، وعلى الرغم من محبته الحميمة والصادقة لهؤلاء الأبطال الأفذاذ الذين رووا بدمائهم تراب الوطن الطاهر، إلا أن كل هذا لم يجرفه ليغرق في أحاديث عاطفية مجانية، ولهذا نلاحظ أنه على الرغم من ضخامة الكتاب الذي يقارب الخمسمائة صفحة، إلا أن كل صفحاته تحتوي على مادة ثرة تنطلق من رؤية تاريخية صارمة ومتماسكة، ومما أضاف لأهمية الكتاب اللغة الشاعرية التي إستخدمها المؤلف مما أحال نص كتابه إلى شئ أقرب ما يكون إلى الرواية التاريخية، ويذكرنا اسلوب الكاتب هذا بأمهات الكتب التي عالجت التاريخ بهذا النمط من الكتابة . وهكذا نلاحظ كدح الراحل في عالم الكتابة وقد أثمر هذا الكدح عن ذخائر مهمة عالجت موضوعات على درجة من الحيوية في تاريخ السودان وثقافته، ويمكن القول إن الراحل لم يكن له من وطن سواء الكتابة وهذا أمر نادراً حدوثه في ثقافتنا السودانية خاصة إذا عرفنا أن الراحل قد بذل جهداً كبيراً في تأليف وإعداد وطباعة هذه المؤلفات وذلك مما كلفه كثير من الجهد والمال والصحة، ولكن المؤلف ضن بكل هذا وكان أكثر ما يكون سعادة عندما عاد للوطن متأبطاً مؤلفيه الأخيرين أصوات في الثقافة السودانية في طبعته الثانية و صولة بني عثمان وكان قد شرفني بأن أقوم بتزكية المؤلفين لإدارة المصنفات، الأمر الذي قمت به وأنا أكثر ما أكون سعادة إذ كنت أرى أن هذا أقل ما أقدمه للراحل ولكتبه ولمؤلفاته التي تستحق القرأة العميقة والجادة وكنا في منتدى الكتاب في جامعة الخرطوم قد خططنا جلسةً لمناقشة مؤلف الراحل صولة بني عثمان الأمر الذي أسعده كثيراً وأحتفى به لكن مرضه أولاً ثم وفاته كل هذا لم يدع له فرصة لسماع أراء الباحثين في مؤلفه ورحل عنا وهكذا ترك لنا الراحل علماً نافعاً سينتفع به الناس، كثيراً ألا رحم الله مكي أبو قرجة وتقبله قبولاً حسناً وأحر أيات العزاء لأسرته الصغيرة و آل حسن أدم وإسحق القرشي وحسين حميدة وأسامة أبو قرجة وجميع من عرف مكي وأحبه.