يعتبر الأقباط من أقدم الطوائف الدينية في وادي النيل، بل والشرق الأدنى، لم يكن المصري يُعرف لدى العرب إلا بالقبطي حتى أولئك الذين يحاولون وضع تخريج للاسم يقولون إن «اجبتوس» الإغريقية استحالت في النطق العربي بعد حذف الألف والسين إلى «قبط» والكلمة في اللغتين كانت تعني سكان مصر.. ومن هنا أطلقوا على مصر «إيجبت». أما القبطية فهي ثقافة دينية، تعتبر من تجليات الحضارة المصرية.. عند ظهور المسيح كانت مصر ثملة برحيق الحضارات المصرية القديمة، والإغريقية «الرومانية البيزنطية»، هذه الحضارات كانت قد تعتقت في مدرسة الإسكندرية، لهذا؛ أخذت الثقافة الدينية القادمة من فلسطين مذاقاً خاصاً، شكل فيما بعد المذهب القبطي الأرثوذكسي. *** ألوان من عذاب مهول حكينا عنها في الحلقة السابقة، دفعت الفكر القبطي إلى أبعاد سحيقة من التجريد الصوفي تتلخص في هذا السؤال: «كيف يترك الإنسان صداقة المسيح ليتحد بامرأة»! لم ينته الأمر عند هذا الحد، بل إن المذهب القبطي اشتد عوده واتسعت سطوته بعد قرن من عصر الشهداء. وبدأت هي نفسها ترتكب عمليات اضطهاد طالت المعابد الوثنية واليهود. نستطيع أن نقول إن العصر الذهبي للكنيسة الإسكندرانية كان في القرون «الرابع والخامس والسادس»، سطوة آباء الكنيسة المرقسية بلغت أوجها في القرن الخامس عند عتبة البابا كيرلس 412 ميلادية.. في عهد هذا البابا قتلت عالمة الفلك والرياضيات الفيلسوفة هيباتيا على يد رجال دين متعصبين أمثال بطرس القاريء.. هناك من المؤرخين من برأ البابا من التحريض، وهناك من أثبت تحريضه، ونقلت روايات الخصوم تحريضاً على لسانه فيه شيء من مساحيق الخيال نقلوا عنه قوله وهو يخاطب شعبه: «طهروا أرضكم من دنس أهل الأوثان واقطعوا ألسنة الناطقين بالشر، ألقوهم مع معاصيهم في البحر واغسلوا الآثام الجسيمة». *** لم يكتفوا بذلك، بل نسبوا إليه أنه أمر بهدم معابد الوثنيين وطرد اليهود خارج أسوار الإسكندرية!.. هكذا كانت الكنيسة تستمد قوتها من قوة الشعب القبطي الذي بلغ درجة رجم حاكم الإسكندرية بالحجارة لأنه أبدى رأياً في عملية طرد اليهود. وامتدت سطوة الكنيسة القبطية في هذه الفترة إلى تجريد الكنائس «المارقة» في أنطاكيا والقسطنطينية في الشام وجنوب أوربا. استطاع كيرلس هذا أن يجرد نسطور أسقف أنطاكيا لمجرد أنه أبدى رأياً في إلوهية المسيح: أنكر أن تكون السيدة مريم ولدت إلهاً، أي أن العذراء امرأة قديسة وليست أماً لإله.. استطاع بابا الإسكندرية أن يجعل رؤيته الدينية قانوناً عاماً لا يجوز الخروج عليه، والرؤية هي «الله تجسد بكامله في المسيح من يوم صار في بطن أمه»، أي أن الكلمة اتحد بالجسد «اقنومياً» أي أصبح كياناً واحداً لا فصل فيه بين الإنسان والله.. هذا هو قانون مجمع افسوس، وهو في الحقيقة القانون الإيماني رقم «2».. القانون الأول كان قبل ذلك بقرن وهو قانون مجمع نيقيه عام 325ميلادية، في ذلك التجمع وحد آباء الكنائس المسيحية رؤيتهم في طبيعة المسيح وقالوا بألوهيته.. أما الرأي الآخر فقد كان في رأي قديس آخر يسمى آريوس، اعتبروه بعد صدور القانون ملعوناً! وكان في مذهبه أن المسيح ليس إلهاً فهو يعتقد أن السر الإلهي ظهر على المسيح ولكن دون أن يكون إلهاً.. ويقال أنه قتل مسموماً.. اضطهدوا كل من قال برأيه ومنهم أسقف الإسكندرية جورج الكبادوكي.. تقول الروايات - وقد تطالها بعض المبالغات - إنهم مزقوه بالسواطير باعتباره عميلاً لروما.. أما السبب الأصلي فقد كان ميله لآراء آريوس! من مفارقات التعصب الديني أن نسطور الذي اعتبره بابا الإسكندرية ملعوناً فيما بعد قام باضطهاد أنصار آريوس وهدم كنائسهم.. هذه الصراعات الدينية التي كان يقودها بعض القادة تجد فيها التعصب الديني والاستبداد السياسي؛ لهذا كانت هناك فئة من خدام كنائس ورهبان غير معنيين بهذه الصراعات، في هذه الفئة هناك فئة متدينة اختارت الصمت باعتبار أن ديانة الإنسان هو تدينه وليست مقولات تطلق هنا وهناك!! فطالما كانت مريم قديسة مبجلة ما الذي يفيد في تساؤلات مثل: هل هي أنجبت الإنسان أم الإله؟!! وهناك آخرون كانوا يرفضون الخوض باعتبار أن المسيح هدية ورحمة ولن نستفيد كثيراً إذا استرسلنا في خرافاتنا الخاصة حول طبيعته! *** الشاهد بين كل هذا أن الصبر على سنوات الاضطهاد أفرز بعد قرن من الزمان ازدهاراً لم يتكرر للديانة القبطية، بل إن التعصب الديني الذي تركه بعض رؤساء الكنيسة القبطية عجلت بالتدهور، فبعد أن تنيح «أي مات» كيرلس سالت شلالات دماء أما الأقليات المضطهدة من يهود ووثنيين فقد تم قتلهم، وتنقل الروايات أن الشعب ثار على الأسقف بروتيريوس حتى أحرقوا جثته وكذلك قاتلوا والياً آخر اسمه طيموثاوس! هكذا استفحلت أزمة التعصب الديني والإرهاب الفكري حتى جاءت على حساب البنيان السياسي.. فلم يعد معروفاً من الذي يحكم مصر: الوالي الروماني أم رجال الدين.. دخلت الفوضى من هذا الباب حتى إذا جاءت الجيوش الإسلامية لم تجد مقاومة بحجم تاريخ مصر! *** الحلقة القادمة.. لهذا خاطب رسول الإسلام «صلى الله عليه وسلم» مقوقس الأقباط ولم يخاطب الحاكم الروماني.