قالوا إن الثقافة هي مجموع العقائد والقيم والقواعد التي يقبلها ويمتثل لها أفراد المجتمع، إذن فهي سلطة موجهة لسلوك المجتمع، وهي ذات نمو تراكمي على المدى الطويل وتنتقل من جيل إلى آخر عبر التنشئة الإجتماعية، ثم إنها أخيراً ذات طبيعة جماعية.. إن الثقافة بهذا المنظور والمفهوم تميز الشعوب عن بعضها البعض في نمط الحياة ولكنها أيضاً تقود الشعوب إلى التلاقي والتلاقح أو الأخذ بثقافات البعض خاصة الإيجابيات. تعاني الأجيال الحاضرة نوعاً من البؤس الثقافي وليس المعرفي، لأن طبيعة العصر الذي يعيشون فيه اقتضت تقديم المعرفة على الثقافة لأسباب منطقية، فانزوت الثقافة بمفاهيم الأجيال السابقة بعيداً وأفسحت المجال لكنوز المعرفة الحديثة لتقود المجتمعات بالأسلوب الرقمي السائد عالمياً، لقد اختلفت مواعين الثقافة والتثقيف سعة ونوعاً وأسلوباً، لذا اختلفت أيضاً معايير الغرف منها أو الغوص فيها.. الجميع الآن يتجرع كأسات الثقافة الكائنة توارثاً أو الوافدة تبادلاً أوالتي زُجت عنوة (ثقافة المستعمر)، ومن هنا جاء تباين أمزجة الناس في إتباع ثقافة بعينها دون غيرها سواء كانت تلك أو هذه الثقافة فنية، أدبية- أو غنائية وهلمجرا إلى آخر الصرعات في أنواع الثقافات التي تتواثب وتتحرك بين الأمم. إن الأمم والشعوب لا تتنازل قيد أنملة عن موروثاتها الثقافية بكل أنواعها، بل تضيف عليها الجديد أو الحديث الذي يتماشى معها ولا يضرها، تلك هي الشعوب الواعية والمدركة للإرث الوطني بكل مجاميعه، فالإرث ليس كله زهوراً، بل فيه أشواك وهذه الأخيرة من الأمور التي تبقى في ذاكرة الشعوب الثقافية للإعتبار منها فهي مشحونة بالملاحم والمواقف للوقوف عليها، أو دراستها، محفزاً لنمو التفاعل الثقافي الذي يقود الأمة. ثقافتنا الفنية السودانية تتنوع بتنوع مكونات المجتمع وإثنياته، وتختلف هذه المكونات في أنماط سلوكها الإستجابية لهذه الثقافات تبعاً لموروثاتها الداخلية، إلا أن هذا الإختلاف ذوبته تكاملية إشراف الدولة ومزاجها بإيقاعية وطنية خالصة، جعلت الإستجابة النفسية المزاجية والإستجابة الجسدية الحركية لا تختلف كثيراً من منطقة لأخرى.. إن التفاعل التلقائي يتم مع الكلمات حتى ولو كانت رطانة والأنغام ثم الإيقاع، فالفنون تحرك الوجدان والمشاعر، لقد أزالت الثقافة الفنية بكل أنواعها الفوارق وصارت محفزاً للإختصاصيين ليغوصوا في أعماقها لإستمكان جذور الإلتقاء القديم وقواسم النمو المشترك، والعمل على ازدهار الفن السوداني القادم وانتشاره. السودان معبر للثقافات الفنية وملتقاها، وهي ماكانت يوماً لتطغي على الثقافة الفنية السودانية، مهما تنوعت أو كثرت أو توغلت في أوساط المجتمع السوداني، لأنها ليست في قوتها إيقاعاً ونغماً وتطريباً.. الثقافة الفنية السودانية لسهولة فهم مفرداتها وانسياب جملها الموسيقية وجدت تفهماً وتجاوباً منقطع النظير في أكثر الدول العربية والإفريقية، تمتعاً بذوق فني وأعني اليمن وأثيوبيا. تعرضت ثقافتنا الفنية تحديداً الغنائية لريح أو رياح فنية عاصفة هوجاء من نوع الهبباي التي يغطي ويطغى على ما سواه، ولا يظنن أحد إننا ضد الفنون الغنائية أو غيرها الوافدة، فالفضاء مملوك للجميع وتنقل وسائطه ما تريد ومالا نريد، ولكن الخطر الماحق على الفن السوداني الأصيل عبر الطرقات، والحدائق والمسافات وداخل صالاتنا للمناسبات وبيوتاتنا، بل وحتى بعض كبار فنانينا خضعت إرادتهم لإنتاج أغانيهم حتى التراثية عن طريق الفيديو كليب بإيقاعاتها السودانية، ولكن بأداء حركي لا يمت للسودان بصلة ويجافي وينافي واقعنا الذي نريد، وأداءنا الحركي الذي نسعى للإرتقاء به ليس إلى العالمية التي يبتغيها البعض ولكن إلى المستوى الذي يخلق الشعور بالإكتفاء الفني والإنتماء الروحي والوجداني لهذه البلد.. وشاهدي على ما ذهبت إليه رائعة الكابلي أوبريت مروي، الذي جاء الأداء الحركي والراقص بواسطة فرقة إثيوبية في إحدى الصالات، مما أفقد الأوبريت طعمه ونقاءه وصفاءه ورونقه التراثي الجميل.. قد نختلف في تذوق الفنون خاصة الغنائية، ولكنا قطعاً لن نختلف في أنه يجب أن تحافظ هذه الفنون على قيمنا الأخلاقية والإجتماعية وهذه دعوة لتقود وزارة الثقافة (وقد عادت) ركب الثورة للعودة إلى التراث الفني السوداني الأصيل وهي دعوة أيضاً للمجتمع السوداني العريض وإتحاد المهن الموسيقية لإعادة توجيه بوصة الذين يغردون خارج السرب الفني السوداني في المناسبات والصالات والرحلات الفنية غير المرصودة ولا تحدها حدود. إن جيل اليوم والغد في حاجة لمن يعيد توجيهه لثقافتنا الفنية خاصة الغنائية لأنها تربطه بالتراث وإرتباطه بالتراث يعني التثقف، والتثقف يعني الربط بين الماضي والحاضر والتطلع للمستقبل، وهنا تجتمع الثقافة بالمعرفة، وهما وجهان لعملة واحدة أو هكذا أعتقد. والله أعلم. فريق ركن