احترق مقهى ليلي في بوخارست- العاصمة الرومانية- والتهمت النيران 32 جسداً.. هذا هو الخبر.. وهو خبر يكاد يكون عادياً، ذلك لأنه في كل مرة تلتهم النيران ملهى ليلياً، في مكان ما من هذا العالم. ما ليس عادياً، أن تنفجر بوخارست كلها في احتجاجات نهارية، محملة الحكومة أسباب هذه الكارثة.. وما ليس عادياً- للمرة الثانية- أن تلتهم الاحتجاجات رئيس الوزراء فيكتور بونتا. استقال الرجل.. وفي فمه جملة وضيئة: «أستطيع المنازلة في أي معركة سياسية، لكني لا أستطيع إطلاقاً منازلة الشعب»!.. تلك جملة، روحها من روح الديمقراطية.. والديمقراطية- بحسب التعريف اليوناني التليد- هي حكم الشعب بالشعب، لصالح الشعب! جملة فيكتور بونتا، ما كان ليمكن أن تخرج من فمه، لو كانت لا تزال رومانيا في قبضة تشاوشيسكو، وعقيلته المهووسة بتكديس الأحذية، أكعاباً عالية وواطئة وزحافات! أكثر من ذلك، ما كان للرومانيين أن يخرجوا - نهارا أو ليلاً- في زمان القبضة الحديدية، حتى ولو التهمت النيران، كل الملاهي الليلية في رومانيا كلها! الحرية في الديمقراطية.. ومن هذه الحرية التي لا تتجزأ، ليس فقط أن تختار من يحكمك بإرادتك أنت، وليس إرادته هو- وإنما تمارس حقك في التعبير، حتى بالهتاف تحت الشمس! تعالت الهتافات، أما رئاسة الحكومة.. أراد البوخارستيون أن يوسعوا مسؤولية النيران لتتجاوز زصحاب الملهى، إلى الحكومة ذاتها، و«تلك رغبة مشروعة» كما قال الرجل الذي أسرع، متحملاً جانباً من المسؤولية ليقدم استقالته، إلى الرئيس كلاوس يوهانيس.. غريمه في الرئاسة، والذي كان قد هزمه في الانتخابات الرئاسية العام الماضي. أستطيع أن أنازل الرئيس الذي سحقني في الانتخابات الفائتة، لكن لن أستطيع أن أنازل الشعب.. هذا ما قاله ضمنياً بونتا، وهو يقول جملته الوضيئة تلك. تحمل المسؤولية، تربية، أدب من أدبيات الديمقراطية، وهذا الأدب لا يزال ينقصنا نحن في - السودان، ذلك الذي لعب لعبة الديمقراطية، ويتلاعب في الوقت ذاته، بكل شروط هذه اللعبة الشعبية، التي تهفو إليها الشعوب، وتصفق لها تصفيقها للعبة الحلوة في الميادين الخضراء! ثقافة الاستقالة تنقصنا.. ليمت من يمت بالنيران أو غيرها.. نعم في التربية الإيمانية، ذلك قضاء وقدر، لكن أوليس من التربية أيضاً، أن كل مسؤول، مسؤول عن رعيته، خاصة إذا ما طال هذه الرعية، نوع من الإهمال أو الفساد القاتل؟ ثم.. أوليس من التربية أيضاً «أنه لو نفقت بقرة بأرض العراق، لكنتُ مسؤولاً عنها»؟ ترى، متى يفهم المسؤول- أي مسؤول- أن مسؤوليته الحقيقية، ليست فقط في الجلوس على كرسي المسؤولية، وإنما في مفارقة هذا الكرسي- بمنتهى الشجاعة- إذا ما قصر في واجباته.. ومسؤوليته؟ المسؤولية أخلاق.. وضمير لا يكف عن الوخز.. هذا ما أفهمه.. وتفهمه أنت.. لكن يبقى السؤال: متى يفهم المسؤول- أي مسؤول- ذلك ليصير بحق مسؤولاً إلى.. إلى يوم أن تتعبأ الحلاقيم بالهتاف؟!