في هذه المرحلة، مرحلة دراسته الجامعية في جامعة ميدلبيري، التي بدأ يشعر فيها بالتعاسة للدرجة التي فكر فيها بمغادرة الجامعة أو قطع دراسته لمدة عام على الأقل - كما طلب من والده - بدأ جون بيركنز يدرك أن الحياة سلسلة من المصادفات - كما قال - وجل ما في استطاعة المرء أن يفعله يتمثل في ردود أفعالنا وممارسة ما يطلقون عليه «حرية الإرادة» وأن اختياراتنا تحكمها تقلبات القدر الذي يقرر من نكون. وهناك مصادفتان رئيسيتان حدثتا له في ميدلبيري، شكلتا حياته فيما بعد. أتت إحداهما على هيئة شاب إيراني ابن جنرال يعمل مستشاراً خاصاً للشاه، والثانية كانت شابة جميلة اسمها (آن) على اسم حبيبة طفولته.يسمي جون صديقه الإيراني «فرهاد» ويبدو أن اسمه الحقيقي غير ذلك، وقال إنه كان لاعب كرة قدم محترف في روما، وكان ذا خلفية ثقافية وحضور طاغٍ جعلا منه شخصاً لا يقاوم من النساء، وكان على نقيضه في أمور كثيرة، وبذل مجهوداً كبيراً لكسب صداقته، وتعلم منه أشياء كثيرة ساعدته فيما بعد. أما آن، فمع أنها كانت على علاقة جدية بشاب آخر، فإنها أخذته «تحت جناحها»- على حد تعبيره- وكانت علاقتهما الإفلاطونية أول علاقة حب حقيقية في حياته.شجعه فرهاد على الشرب وارتياد أماكن اللهو، وتجاهل تعليمات والده، فتوقف عن الدرس والتحصيل بكامل إرادته، وبيَّت النيَّة على هجر الدراسة الأكاديمية انتقاماً من أبيه فانخفضت تقديراته وفقد المنحة الدراسية، وفي منتصف السنة الثانية عزم على ترك الجامعة وهدده أبوه بأن يتبرأ منه، وآزره فرهاد في موقفه، فدخل لا يلوي على شيء - كالعاصفة - إلى مكتب العميد وترك الجامعة، وكانت تلك هي اللحظة الفاصلة في حياة جون بيركنز.وفي تطور لاحق، فُصل صديقه الإيراني فرهاد من الجامعة، وانتقلا سوياً إلى بوسطن وسكنا معاً، وحصل هو على وظيفة مساعد شخصي لرئيس التحرير في مؤسسة هيرست بجريدة «صنداي أدفرتايز»، وفي نهاية ذلك العام (1965) جُنِّد الكثير من رفاقه في الجريدة - عسكرياً - ولتفادي ذلك المصير، التحق جون بكلية إدارة الأعمال بجامعة بوسطن، وفي ذلك الوقت كانت «آن» قد انفصلت عن صديقها القديم، وكانت كثيراً ما تأتي من ميدلبيري لزيارته، فرحب باهتمامها به، وتخرجت هي في عام 1967 بينما كان أمامه عام كامل لإنهاء دراسته في بوسطن، ورفضت هي الانتقال للعيش معه ما لم يتزوجا، وبرغم تردده كان يستمتع بصحبتها ويريدها أن تبقى معه، فلذا قرر أن يتزوجها. وكان والدها مهندساً لامعاً، وضع تصميم نظام توجيه لنوع مُعين من الصواريخ، وكوفئ بمناصب مرموقة في البحرية الأمريكية، وكان أعز أصدقائه رجلاً تدعوه آن ب«العم فرانك»، وهذا ليس اسمه الحقيقي، كان موظفاً كبيراً بوكالة الأمن القومي (NSA)، أقل مؤسسات المخابرات شهرة في البلاد وأكثرها عدداً.بعد زواجه بوقت قصير اُستدعي جون للفحص الطبي في الجيش واجتاز الفحص، وعندها واجه احتمالية الذهاب إلى فيتنام عند تخرجه، أرقته فكرة القتال في جنوب شرق آسيا، برغم من أن حكايات الحرب كانت تثير دائماً إعجابه، كتلك التي كان يسمعها عن جدوده المستوطنين الرواد، ومنهم «توماس بين» و«إيثان آلن»، فقد زار الكثير من مواقع الحروب في نيوانجلاند ونيويورك وحروب الثروة الأمريكية، وقرأ عنها كل ما وقع بين يديه، ولدى بداية دخول الجيش الأمريكي لجنوب شرق آسيا كان متحمساً لتسجيل اسمه، ولكن عندما بدأ الإعلام ينشر فظائع وتناقضات سياسة الولاياتالمتحدة في فيتنام، أحس بتغيير في عواطفه، وبدأ يتساءل في أي جهة كان سيقف جده توماس بين إذا كان حياً، وتأكد بأنه سينضم إلى الفيانكونج، أي مليشيات الفيتناميين. أنقده من «الورطة» التي وجد نفسه فيها «العم فرانك»، عندما أبلغه أن هناك وظيفة شاغرة في وكالة الأمن القوميNSA)) ، تؤهل من يشغلها لتأجيل الخدمة العسكرية، فأجريت له - بتوصيه من العم فرانك - عدة اختبارات في الوكالة، من بينها اختبار على «جهاز كشف الكذب»، وقيل له إن هذه الاختبارات هي التي ستحدد مدى صلاحيته للتدريب والعمل في الوكالة، وفي حال صلاحيته سيكشف هذا الاختبار نقاط قوته وضعفه، وسيحدد ما ينبثق عنه من معلومات نوع العمل الذي سيصلح له في الوكالة، فشعر أن موقفه من حرب فيتنام سينتهي به إلى عدم النجاح في الاختبارات، فقد قال خلال تلك الاختبارات إنه «كأمريكي مخلص أرفض الحرب»، واندهش أن الممتحن لم يسترسل في أسئلته حول هذا الموضوع، وبدلاً من ذلك ركزوا على أمور أخرى منها: نشأته وسلوكه تجاه عائلته، والعواطف المتولدة من واقع نشأته كفقير ينتمي للمذهب البيورتياني بين مجموعة من الطلبة الأغنياء الذين يسعون وراء ملذاتهم، وكذلك استطلعوا إحباطاته لافتقاره للمرأة والجنس والمال، وما نتج عن ذلك من عيشه في عالم الأوهام والخيال، وذهل للاهتمام الذي أولوه لعلاقته بفرهاد (ابن الجنرال الإيراني) وتطوعه بالكذب على الحرس الجامعي لحماية فرهاد بعد ليلة قضياها سوياً بأحد الملاهي انتهت بمشكلة بينه وبين أحد المخمورين الذي اتهمه بمغازلة زوجته. تصور جون بيركنز أن كل هذه الأشياء التي بدت له سلبية جداً ستعوق قبوله في الوظيفة، إلا أن استمرار الاختبارات أوحى بخلاف ذلك، ولم تمض سنوات كثيرة حتى أدرك أن تلك «السلبيات» من وجهة نظر الوكالة تعتبر «إيجابيات»، فأمور مثل ولائه لوطنه لم تسترع انتباههم بقدر الإحباطات التي واجهها في حياته، كغضبه من عائلته وتعلقه بالنساء وطموحه في حياة رغدة، كل ذلك منحهم - كما قال - انطباعاً بأني «سهل الإغواء»، وذلك ما كانوا يرغبون فيه بالفعل، واكتشف - فيما بعد - أن فرهاد «ذاته» كان يعمل مع المخابرات الأمريكية في إيران، وبالتالي فإن صداقته معه كانت نقطة فاصلة وقوية لصالحه. المهم أن جون قُبل - في النهاية - للوظيفة وبدأ التمرين على فنون الجاسوسية، ليبدأ في ممارسة العمل بعد تخرجه من جامعة بوسطن بعد ذلك بعدة شهور، وقبل أن يُقبل رسمياص في الوظيفة الجديدة حضر ندوة في جامعة بوسطن حاضر فيها مسؤول عن تجنيد «فيالق السلام» - «Peace Corps» وهي فيالق «خدمة عامة»، وشجعه للانضمام لها أنها تمثل مدخلاً لتأجيل التجنيد الإجباري، حضوره تلك الندوة، كان أيضاً إحدى تلك المصادفات التي غيَّرت مجرى حياته، وقد حدد المحاضر عدداً من البلدان بحاجة ماسة إلى متطوعين، إحدى هذه البلاد كانت منطقة غابات الأمازون في أمريكا اللاتينية، وأوضح المحاضر أن السكان الأصليين هناك لايزالون يعيشون كما عاش سكان أمريكا الشمالية الأصليين (الهنود الحمر) قبل مجيء الأوربيين. بعد المحاضرة، اقترب من المحاضر وسأله إن كان بإمكانه الانضمام لفيالق السلام والخدمة في الأمازون، فأكد له المحاضر أن هناك حاجة كبيرة للمتطوعين في ذلك المكان وأن فرصته ممتازة. فاتصل على الفور ب«العم فرانك» الذي - لدهشته - شجعه على الانضمام لفيالق السلام، وأسرَّ إليه بأن الأمازون أصبحت منطقة جذب وخاصة بعد سقوط هانوي - عاصمة فيتنام - وقال له إنها منطقة غنية بالبترول وسنحتاج لعملاء أكفاء هناك، قادرين على فهم أهل البلاد، وأكد له أن العمل في فيالق السلام سيمده بخلفية ممتازة للتدريب، وحثه على اتقان اللغة الأسبانية وبعض اللهجات المحلية، ثم ضحك ضحكة خافتة وأكمل قائلاً: «قد ينتهي بك المطاف بالعمل في شركة خاصة» بدلاً من العمل مع الحكومة!لم يفهم جون، لحظتها مغزى كلام «العم فرانك»، فقد كانوا يعدونه للتحول من «جاسوس» إلى «قرصان اقتصاد» على الرغم من أنه لم يسمع هذا التعبير من قبل ولم يسمعه بعدها لسنوات عديدة، ولم يخطر بباله أن مئات من النساء والرجال منتشرين حول العالم يعملون لحساب «شركات استشارية» وغيرها من الشركات الخاصة، ورغم أنهم لا يتلقون مليماً واحداً من أي وكالة حكومية، لكنهم يخدمون مصالح الإمبراطورية»، ولم يخطر بباله حينها أن هناك نمطاً من هؤلاء الأشخاص يحملون ألقابا لطيفة سيصل تعدادهم إلى الآلاف في نهاية القرن العشرين، وأنه سيلعب دوراً مؤثراً في توجيه هذا الجيش العرمرم.بهذا وضع جون قدمه على أولى عتبات «القرصنة الاقتصادية» فتقدم بطلبه إلى وظيفة في «فيالق السلام» هو وزوجته آن، وطلب أن يذهب إلى الأمازون، فقبل وجاءه الرد بأنه سيرسل إلى «الإكوادور» التي كان يظن أنها في أفريقيا وليست في أمريكا اللاتينية، ليذهب إلى الفهارس والخرائط ليكتشف أنها في أمريكا اللاتينية وتشكل جبالها الرافد الرئيسي لنهر الأمازون العظيم، فأكمل وآن تدريبات فيالق السلام واتجها إلى الإكوادور في سبتمبر 1968، ليبدأ من هناك قصته وسيرته الجديدة «كقرصان اقتصاد» وليس مجرد جاسوس أو متطوع خدمة عامة، وهي القصة والسيرة التي سيروي لنا أسرارها في حلقات قادمة من هذه «الإضاءة» على كتابه المهم والمثير.