الكتاب الذي نستعرضه اليوم يكتسي أهمية خاصة، بالنظر للظروف والمرحلة التي تعيشها بلادنا فهو مهم من حيث موضوعه (الاغتيال الاقتصادي للأمم) العنوان الذي أختاره له المترجم، ومن حيث كشفه للحقائق على يد أحد (أولئك القتلة) عبر إعترافات جون بيركينز مؤلفه الذي كان والغاً حتى إذنيه في دماء تلك الأمم المقتولة . أما أهميته بالنسبة لبلادنا وقرائنا، فإن الكتاب يأتي في وقته تماماً حيث تقوم تلك الجهة التي تمارس عمليات الاغتيال الاقتصادي للأمم - الولاياتالمتحدة- بنشاط محموم، وبلهث لم ينقطع على مدى سنوات، بالعمل على تقسيم بلادنا والسيطرة على الأقل على جزء مهم - إن لم يكن الجزء الأهم فيها على الإطلاق- وهو الجنوب، مستخدمة كل أسلحتها الفتاكة من أجل إنجاز هذا (الإغتيال) على أكمل الوجوه، وهي أسلحة تتدرج من المعونات الاقتصادية والأنشطة الدبلوماسية بالتدخل المباشر في السياسة الداخلية وعبر أجهزة الاستخبارات وعبر قنوات المنظمات الدولية والاقليمية وأجهزتها العسكرية والشرطية، وهو تدرج لا يستبعد أن يقود في نهاية المطاف إلى إنغماسها المباشر في حرب مفتوحة، مثلما يحدث في العراق وأفغانستان حالياً أو ما حدث في فيتنام أو كوريا وفي العديد من دول أمريكا الوسطى واللاتينية في أوقات سابقة. الكتاب، الذي أهدانيه - مشكوراً- د. الفاتح محمد سعيد رئيس لجنة الصحة بالمجلس الوطني وزير الدولة السابق بوزارة الصحة، يحمل عنوانه الأصلي، باللغة الانجليزية Confes sions of an Economic Hitman ومؤلفه هو جون بيركنز،Jon Perkinsأضاف اليه مترجمة مصطفى الطناني عنواناً ثانياً للعنوان الأصلي ليصبح: الاغتيال الاقتصادي للأمم.. إعترافات اقتصادي وصدرت الطبعة الأولى العربية منه عن دار الطناني للنشر في العام 2008م ويقع في 272 صفحة من القطع المتوسط، وقدم له د. شريف دلاور. وأهداء بيركنز لكتابه يستحق وقفة متأملة حيث يقول في ذلك الأهداء: (إلى أمي وأبي، روث مودي وجاسون بيركنز، اللذين علماني الحب والحياة، وزرعا في الشجاعة التي جعلتني أكتب هذا الكتاب). وبالرغم من أن قصة السيطرة الأمريكية على مقدرات العالم، بعد أن تحولت الولاياتالمتحدة - علمياً- إلى إمبراطورية (لا تغيب عنها الشمس) في أعقاب الحرب العالمية الثانية قصة شائعة ومعروفة ومقرءوة في العديد من المؤلفات والتقارير، إلا أن (قصة بيركنز) - كقرصان اقتصادي- تختلف عن كل ما أطلعنا عليه في السابق وما نعلمه، ذلك أنك عندما تدخل في تضاعيفها وتقف على تفاصيلها تجد نفسك أقرب لحاله مريض يعلم مرضه وأسبابه، على وجه العموم، حتى زوده المستشفى بتقرير كامل عن نتائج الفحوصات وبدأ يطلع على دقائقه وعلاقة كل علة بالأخرى، فيصاب بالدهشة وربما الاستغراب عندما يطلع على خفايا ما كشفه ذلك التقرير الطبي المفصل. لم تكن كتابة ذلك الكتاب ومحتوياته التي تلقى أضواء كاشفة على أساليب السيطرة والهيمنة والنهب المنظم لموارد الأمم التي تمارسها الولاياتالمتحدة أمراً ميسوراً لجون بيركنز فهو كما يقول قد بدأ (الكلام) عن مشروع هذا الكتاب في عام 1982م وفكر أن يكون عنوانه في ذلك الوقت (ضمير قرصان اقتصادي) - تعبيراً عن صحوة الضمير التي أنتابته والتي تجد جذورها في تربيته كما نوه في الإهداء لأمه وأبيه- وكان هدفه تكريم رئيسي دولتين هما خايمي رولدوس رئيس الإكوادور وعمر توخوس رئيس بنما، فقد كانا من زبائنه (كقرصان اقتصادي) وكان يحترمهما ويرى بينهما تقارباً وتشابهاً في الطباع، وقد لقيا حتفهما في حادثين مروعين مدبرين، فقد اغتيلا بسبب معارضتهما(للشبكة الجهنمية) من الشركات العملاقة والحكومات والبنوك التي تسعى لبناء إمبراطورية عالمية، وعندما فشلوا هم (قراصنة الاقتصاد) في استمالة رولدوس وتوخيوس تدخل فريق آخر من القراصنة، هم ثعالب المخابرات الأمريكية المركزية (CIA) والذين كانوا دائماً خلفهم واستطاعوا تنفيذ المهمة (بنجاح).. ألا يذكر مصير رولدوس وتورخيوس المرء بمصير د. جون قرنق دي مبيور؟. تعرض بيركنز للاقناع من جانب (البعض) أكثر من مرة منذ ذلك الوقت الباكر (1982) بالتوقف عن كتابة هذا الكتاب، الذي شرع في العمل فيه أربع مرات خلال العشرين سنة الماضية ، وفي كل مرة كان قراره يتأثر بأحداث العالم الجارية: الاجتياح الأمريكي لبنما 1989م، حرب الخليج الأولى، أحداث الصومال، ظهور أسامة بن لادن، ومع ذلك يعترف بيركنز بأن (التهديد أو الرشوة) كان هو ما يوقفه عن الكتابة في كل مرة، وآخرها كان عام 2003م عندما قرأ رئيس دار نشر تمتلكها شركة عالمية كبيرة مسودة الكتاب الذي أصبح يعرف الآن ب (إعترافات قرصان اقتصادي) ووصفها بأنها قصة مشوقة جديرة بأن تروى، ثم ابتسم (إبتسامة حزينة) وهو يهز رأسه، وأبلغه أن رجال الإدارة العليا في شركته لن يسمحوا بها، لذلك فهو لا يستطيع أن يغامر بنشرها، ونصحه بأن يحولها إلى(عمل روائي) وبذلك يمكن أن يسوقها كعمل من طراز كتابات(جان لوكارية) أو جراهام جرين وفيما بعد ساعده ناشر أكثر جرأة على نشر حكايته، ناشر لا يحكمه احتكار عالمي، وبذلك رأي الكتاب النور. هذا بلاضافة إلى عامل ودافع شخصي ساعد بيركنز وشجعه على تخطي المخاوف والحواجز والمطبات وجعله أخيراً يتجاهل التهديدات والرشاوي، فابنته جيسيكا المتخرجة حديثاً من الجامعة والتي سألها عن رأيها في نشر الكتاب وأطلعها على مخاوفه أجابته بقولها: لا تخف، لو أنهم استطاعوا النيل منك فإنني سأواصل المشوار وأكمل الطريق من حيث انتهيت، فنحن بحاجة للقيام بهذا العمل من أجل الاحفاد الذين آمل أن أنجبهم لك.أما على مستوى قناعاته الخاصة التي دفعته إلى الإلحاح على كتابة قصته (كقرصان اقتصادي) فيقول بيركنز أنها (تعدد لانتمائي لهذا البلد الذي نشأت فيه، وإلى حبي للمبادئ التي عبر عنها آباونا المؤسسون، وإلى ارتباطي العميق بالجمهورية الأمريكية التي تعد الجميع في كل مكان اليوم، بالحياة والحرية والسعادة، وتعود أيضاً لتصميمي بعد (سبتمبر 2001م على أن لا أقف مكتوف اليدين، بينما هؤلاء القراصنة يحولون هذه الجمهورية إلى إمبراطورية تحكم الكرة الأرضية.. ويقول في ذلك أيضاً هذه القصة يجب أن تروى، فنحن نعيش في زمن أزمات رهيبة وفرص هائلة، وقصة هذا القرصان الاقتصادي بالذات، تروي كيف وصلنا إلى ما نحن عليه، ولماذا نواجه حالياً أزمات يصعب تخطيها هذه القصة يجب أن تروي لأننا من خلال إدراك أخطاء الماضي نستطيع استثمار فرص المستقبل بشكل أفضل وهي يجب أن تروي بسبب أحداث (سبتمبر) وكذلك حرب العراق الثانية، لأنه بالاضافة إلى ثلاثة آلاف شخص قضوا في أحداث 11 سبتمبر على يد الارهاب، هناك 24 ألفاً ماتوا من المجاعات وتبعاتها وفي الحقيقة هناك أيضاً 24 ألفاً يموتون كل يوم لأنهم لا يجدون من الطعام ما يسد رمقهم، وهذه القصة يجب أن تروى، لأنه في هذا الوقت بالذات، ولأول مرة في التاريخ هناك أمة وحيدة لديها القدرة، والمال، والقوة لتغير كل هذا، إنها الأمة التي ولدت فيها، والأمة التي خدمت باسمها (كقرصان اقتصاد) إنها الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويؤكد بيركنز في تقديمه: إنها قصة حقيقية، عشت كل دقائقها، المناظر، الناس، الأحاديث، والمشاعر التي أصفها جميعها جزء من حياتي، إنها قصتي الشخصية، ومع ذلك فقد حدثت ضمن سياق أحداث العالم الكبير الذي شكل تاريخنا، ووصل بنا إلى ما نحن عليه اليوم، وكون أساس مستقبل أطفالنا وأشار إلى أنه بذل كل جهد ممكن كي يقدم هذه التجارب وهؤلاء البشر وهذه المحادثات بشكل دقيق، واستعان في ذلك بأدوات كثيرة منها الوثائق المنشورة والسجلات والمذكرات الشخصية وذكرياته أو ذكريات غيره ممن أسهموا في صنعها ومعلومات كانت سرية في السابق أو غير متاحة. نواصل ..