قبل يومين فقط يعلن وزير المالية (صراحة) إنهم فشلوا في السيطرة على الأسعار وعاد إلى مكتبه دون أن يلوي على شيء، كما عاد من قبل الوزراء الذين أعلنوا(صراحة) عجزهم كوزير النفط والكهرباء ووالي الخرطوم وغيرهم وغيرهم.. ربما أراد الوزير أن يغطي على مسرحية (التراجع عن رفع الدعم). ومعروف أنه بالفعل رفع الدعم ولكن بطريقتين: سحب 2مليار من دعم السلعة الأساسية (من 11 مليار خفض إلى9) وأعاد هيكلة أسعار السلع (الاستفزازية) وغير الاستفزازية، وبهذا سيرتفع الدولار وسينعكس على سعر السلعة الأساسية بطريقتين: إما بنقص الوزن مثل الرغيف أو بالندرة وفتح السوق الأسود كأسعار المواصلات والغاز.. وتحسباً على هذا أعلن منذ الآن بصريح العبارة أنه فشل في معالجة الأسعار !!النتيجة النهائية عملياً رفع الدعم!! والأسوأ هو الضحك عل الذقون ! *** ولا يجب أن نعتقد أن في هذا الفشل أمر جديد، قبل هؤلاء الوزراء بثلاثين عاماً أعلن السيد الصادق المهدي (رئيس حكومة العهد الديمقراطي) أنه عجز عن معالجة السوق الأسود.. وقبل حكومة الصادق بثلاثين عاماً أخرى كان موضوع المعونة الأمريكية هو الموضوع الأول لصراعات حكومة الاستقلال «السيدين»! بعد ستين سنة من (الاستقلال) ما زال السودان يستجدي المعونة الأمريكية ولا يجدها، وهم الآن يشكون مر الشكوى من الحصار الاقتصادي! ومنذ ذلك التاريخ أيضاً لا يملك السودان دستوراً يقيم دولة محترمة متفق عليه!! خلاصة القضية هنا: لم يستطع السودان المستقيل أن يبني دولة محترمة، وأن يجهز لنفسه طعاماً وظل لمدة ستين عاماً ساحة للفقر والفوضى.. وهذا هو معنى الفشل؟ ولا نعني بالفشل الخطأ أو الإخفاق أو التراجع... كل هذه المعاني عادية بل ضرورية في تجارب البشر والإخفاق هو سبيل النجاح، ولكن الفرق بين (الإخفاق والفشل) هو أن الفشل(إخفاق طويل العمر) وأخطاء متكررة، الفشل الذي نقصده هنا هو إخفاق عمره ستون سنة موثق في تاريخ السودان الحديث !! *** انكشف ظهر هذا الشعب عن مفارقة تحكي بوضوح صورة (مشاوير الفشل) التي قطعها هذا الشعب عندما قرر أن يتولى أمر نفسه! الخرطوم من مدينة أوربية عام 1880م إلى أقبح ثالث عاصمة في العالم عام 2008م منظمات الشفافية الدولية لا تكذب والدليل مطروح أمام أعيننا، وآخر تلك التصنيفات وضعتنا كأغبى شعب عربي !! أمام هذه الصور التي لا تبعث سوى الكآبة والقنوط، تذكرت تقرير أحد الأوربيين الذين استعانت بهم الخديوية عام 1860 م وهو صموئيل بيكر.. في تقريره يسخر ويتعجب من الدوافع التي تغري الآخرين لاحتلال السودان.. يقول: (الوجه العام للسودان وجه للبؤس، ليس هناك ملمح مفرد من الإغراء ليعوض أوروبا من مساوئ المناخ المهلك والتجمعات الكاسرة.. وفي ظل الأحوال الكائنة ليست للسودان قيمة، فهو لا يملك قدرات طبيعية ولا أهمية سياسية). في موقف بصات الكلاكلة العشوائي الذي يعربد فيه العفن ذاك، تذكرت الإداري الإنجليزي الآخر الذي كان قد أعلن قبل الاستقلال بزمن طويل أن السودان غير مؤهل ليدير نفسه، وعلى ذاك الدرب سار وليم آدمز عام 1974م عندما اعتبر أن التقدم الذي بدأ به الاستعمار الإنجليزي على مدى السبعة والخمسين عاماً، بقي في مكانه يقول: (وهكذا بما يخالف العادة وجد القطر السوداني نفسه في زمن الاستقلال أدنى درجة في النماء بالمقارنة مع العديد مع جيرانه الأفارقة.) هل هؤلاء الأجانب كانوا مجرد مرتزقة وأصحاب أجندة خارجية أو مستشرقين مغرضين؟! لا يبدو أن بيكر كان مغالياً والإداري الإنجليزي كان بالفعل متفائلاً، لأنه أخر زمن الاستقلال لعشر سنوات أخرى، ولم يؤخر لنصف قرن، أما وليم آدمز فقد كان محقاً وموثقاً بأرقام تحكي الربح والخسارة. الباقي من كل هذا أن السودان بقي في نفس الخانة التي فيها رآه هؤلاء.. بعد نصف قرن من الصراع والحراك عادت الوصايا الدولية والقوات الأجنبية إلى السودان بصورة قانونية أسوأ مما كان في زمن الإنجليز.. وليست هناك إنجازات مثمرة على مدى سنوات الاستقلال سوى إصلاحات العولمة الغالية الثمن مثل انفصال الجنوب والموبايل الذي يحمله المواطن دون مردود سوى المزيد من مضيعة الوقت. هذه الصور الكئيبة التي تجثم الآن في الخرطوم لا يمكن إزالتها بقرارات لأنها تشرب من جذور معمقة الغور في الثقافة المحلية.. وهي من جهة أخرى تعني- فيما تعني- أن التحديث الذي بدأه محمد علي باشا لم يبلغ بعد رغم كل هذه القرون إلى النبض الحي. وواهم من يعتقد امكانية الفصل بين الجغرافيا والتاريخ والثقافة والاقتصاد. هذه الصور مجرد عناوين لمآسٍ أشد كآبة موجودة بالفعل في الظلمات البعيدة للأطراف، وهي في محصلتها سبب ونتيجة للفقر والأمية، وقد بلغت آثارها السيئة العقيدة الدينية التي تبدو الآن كأنما هي المسؤولة عن هذا التخلف المقيم، والسبب هو اتخاذها مهرباً من هذا المأزق التاريخي!! *** وجود الفقر والأمية لعب دوراً في صياغة الثقافة الدينية وبذلك أضعف دورها في صياغة الإنسان المثقف. فأصبحت الثقافة الدينية هي المشكلة أكثر من أي شيء آخر نسبة لخطورة دورها. التنمية الروحية لم تواكبها تنمية مادية، لهذا اضطرت الدعوة الإسلامية لتبرير الفقر، وهذا الأمر فتح المجال واسعاً أمام الظلم الاجتماعي، أصحابها المكوك والملوك والإقطاع والشيوخ وأخيراً العسكرتارية.. من هناك حملت التربية الدينية شوائب من عصور الانحطاط مع مرور الوقت اختلطت بالعقيدة حتى اكتسبت مفردات ثقافة الأبوة الطاغية قدسية في الوعي العام، والذي عمق الأزمة أكثر، ظهور نتائج باهرة لقيادات رشيدة وخاصة بين شيوخ التصوف.. وبذلك أصبح الصالح والطالح يدفعان التيار إلى جهة واحدة: هي أبوة طاغية ألغت الفرد وتاريخه، لهذا أصبحت الخلفية المزاجية للموقف السياسي مقيدة ب(أبوة) غير رشيدة.. وهذا الأمر أنتج ثقافة تعمل على إلغاء للآخر، وعدم قبول التنوع وصعوبة تحديد إطار الحرية الفردية وعدم الاعتراف بالأهداف الجماعية، إلا من خلال المربي الأول! وهو شيخ طريقة أو شيخ قبيلة وأخيراً استثمرت الانقلابات العسكرية هذه القابلية التاريخية للزعامات غير الرشيدة، واختلطت الأوراق حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن !! *** في الحلقات القادمات سنبحث في (سلة الإخفاق) الواسعة؛ نصيب المهدية والعهد الإنجليزي.. وحكومات ما بعد الاستقلال من ديمقراطية وانقلابية عسكرية.