قد لا أكون غريباً أو بعيداً عن تفاصيل قضية جنوب السودان، بحكم أنني نشأت وترعرعت في مدن جوبا وتوريت ومريدي، وأكملت دراستي بالشمال وعدت موظفاً في رئاسة المديرية الاستوائية بمدينة جوبا ثم بمجلس ريفي مريدي، وبذا فإنني على إلمام كامل بطبيعة المنطقة وعلى دراية بالسلوك القبلي وعاداتها وتقاليدها ومسمياتها وتكويناتها. من الطبيعي أن أدلو بدلوي في موضوع الاستفتاء الذي شغل القاصي والداني في الداخل والخارج، ولابد أن أبدأ بتشخيص شفاف لجذور المشكلة والتي بدأت بمؤتمر جوبا عام 1947م والذي تم الإقرار فيه بضرورة أن يظل جنوب السودان جزءً لا يتجزأ من السودان الموحد، وبإيعاز من حكومة صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا التي لا تغرب عنها الشمس، برغم من أن قوافل التنصير والتبشير ظلت تجوب جنوب البلاد جيئة وذهاباً تدعو للعنصرية والكراهية والتفرقة بين أبناء الوطن، لتجعل من السودان بؤرة نزيف دائم ومركز صراع لا يتوقف لإضعاف الأمة العربية والقارة الأفريقية التي نشطت في ذلك الزمان بحركات التحرر والثورة ضد المستعمر البغيض، والذي نتج عنه استقلال كثير من الدول في آسيا وأفريقيا والعالم العربي، فكان لابد للاستعمار الإيطالي والفرنسي والإنجليزي أن يجعل له مواطئ قدم ليمارس هيمنته على المنطقة وسرقة مواردها وثرواتها، من خلال عملائه الذين جعلهم يدينون بالولاء والطاعة لاطروحاته وتوجهاته ويخونون أوطانهم وبني جلدتهم من أجل حفنة من الدولارات. إن تمرد 1955م و 1983م أحد إفرازات التدخل الأجنبي للسيطرة على منطقة البحيرات وجنوب الصحراء الغنية والمليئة بالثروات على سطح وباطن الأرض. لقد ظل المستعمر يعزف على وتر التباين العرقي والاختلاف الثقافي بين الشمال والجنوب، وللأسف الشديد ظلت الحكومات الوطنية بعد ذلك تؤيد هذا الطرح دون فهم لمعاني الغناء على هذا النغم الحساس وبغير اكتراث للنتائج الوخيمة. المكون السكاني لجنوب السودان يشمل عشرات القبائل تتنوع أعراقها ولهجاتها وعاداتها وتقاليدها، بل وحتى دياناتها، وهناك قبائل مشتركة مع دول الجوار لا نعرف أصلها، هل هي في السودان أم في كينيا أو يوغندا أو الكنغو، وكما هو واضح فإن التباين العرقي والاختلاف الثقافي موجود بين قبائل الجنوب منذ القدم، وليس بين الشمال والجنوب فحسب، ومثال لذلك فلا علاقة عرقية أو ثقافية تربط بين قبيلة اللاتوكا في الإستوائية وبين الشلك في أعالي النيل، ولا علاقة بين الزاندي والنوير، ولا علاقة بين الاشولي والكاكوا، وحتى الدينكا والنوير الأقرب تختلف السحنات واللهجة والعادات، وهناك الكثير من الأمثلة والنماذج.. وكذا المكون السكاني لشمال السودان بنفس المنوال من عشرات، بل مئات القبائل تنطبق عليها نفس مقاييس ومعايير التنوع والتباين الذي في الجنوب، ولكنها تختلف عنها بالعقيدة الواحدة والمصاهرة والتمازج القبلي والانصهار وتوحد الفكر والمنهج. السودان وطن مساحته مليون ميل مربع سكانه من مجموع قبائل وليس شعوب كما هو الحال في الولاياتالمتحدة الأميريكة. إن الطرح الغالب للتباين والتنوع بين الشمال والجنوب ليس صحيحاً بالفهم المقارن والوجود السكاني على الأرض وحركة التنقل والعمل وحرية الاعتقاد وحق التملك، التي تأتي مؤشراً بأن الانتماء للسودان الواحد كوطن يسع الجميع يعلو على الأعراق والثقافات.اتفاقية نيفاشا أدخلتنا في نفق مظلم، رغم أن الأعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوي، والحق يقال إن الاتفاقية استهدفت أول ما استهدفت إيقاف نزيف الدم بين أبناء الوطن الواحد بأي ثمن، لذلك ظل وفد الحكومة يقدم التنازلات تلو التنازلات، كما أن الرضوخ لتدويل المشكلة بداية عن طريق دول الإيقاد كينيا ويوغندا وأثيوبيا وارتيريا، ومعلوم أن ثلاثة دول منها في ذلك الحين كانت تعادي بلادنا.ورغم ذلك شاركت في مفاوضات نيروبي ومشاكوس وأبوجا، وجاءت الطامة الكبرى بإشراك ألد أعداء السودان ما سمي ب«شركاء وأصدقاء الإيقاد»، التي ظلت تحشر أنفها في كل صغيرة وكبيرة، بل مارست ضغوطاً رهيبة على بلادنا من خلال المقاطعة والحصار ووضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب أثناء سير تلك المفاوضات وقبلها وبعدها، إننا لانلوم وفد التفاوض الحكومي الذي بذل جهداً جباراً وعانى ما عانى لإقناع حركة التمرد في جنوب السودان للجلوس على طاولة المفاوضات، ولا ينكر إلا جاحد أن نيفاشا في محصلتها النهائية كانت سلاماً وأمناً واستقراراً، ولكن - وآهٍ من لكن- فقد قصمت الحركة الشعبية ظهر البعير وظلَّت تمثل صراعاً دائماً وتنكراً لكل العهود والمواثيق.إن حل المشكلة الآن، إن رضينا أو أبينا، في معية الاستفتاء وإن المناخ الآن مشوب بالحذر، وإرهاصات الدعوة للانفصال تسيطر على الموقف السياسي والاختراق الأمني، ولا نجد صوتاً واحداً من قيادات الحركة الشعبية يدعو للوحدة.. إن نيفاشا ألزمت الشريكين بخيار الوحدة.. وإن المؤتمر الوطني والأحزاب الشمالية الأخرى كافة، وكذا بعض أحزاب الجنوب تدعو لقيام الاستفتاء وتعترف بحق أبناء الجنوب في تقرير المصير وتنادي بالوحدة كخيار طوعي دون ضغوط، وبحرية تامة وتبشر بالسودان الواحد الموحد، عكس الحركة الشعبية التي تمارس ضغوطاً لتمكين خيار الانفصال قهرياً، وذلك بترحيل أبناء الجنوب من الشمال لقراهم ومدنهم ليمارسوا حق التصويت في جو تسيطر عليه قوات الجيش الشعبي، والعمل على عدم تمكين أبناء الجنوب الذين رفضوا العودة من تسجيل أسمائهم في الشمال، وهذا يعني أن سوء النية مُبيَّت، وأن التحرشات على الشريط الحدودي في مناطق التماس يبين أن هناك وميض نار تحت الرماد، وعلينا الاستعداد لكل ما هو متوقع. إن الحركة الشعبية لا تنظر إلا تحت قدميها، ولعل من المناسب أن نذكر أن الجنوب ومنذ فجر التاريخ ظل يعيش على خيرات الشمال وعلى أموال الشمال، وعلى المشروعات الاقتصادية والتنموية التي تقدمها الحكومة المركزية في الخرطوم، وعلى إعاشة وإيواء وتعليم أبناء الجنوب الذين نزحوا من ألوان الحرب ونيران التمرد ولم يختاروا دول الجوار الأقرب للجنوب، بل اختاروا النزوح لإخوتهم في الشمال الذين كانوا على قدر المسؤولية وقدر الوفاء للأخ والشقيق فاقتسموا معهم لقمة العيش وأمنوهم من جوع ومن خوف. إن الجنوب لا يملك مقومات دولة حالياً في حالة الانفصال، فالدولة لا تقوم بالعلم والنشيد، ولا بالبنيات الشامخات والقاعات الضخمة لمقار الحكومة، إن أهم مقومات الدولة هي اللغة الرسمية واللسان الواحد، ولا عجب أن نقول إن نسبة الأمية عالية ومخيفة، واللغة الانجليزية لا يتحدث بها إلا القلة من أبناء الجنوب الذين نالوا قسطاً من التعليم العالي، ولا يتحدث العامة إلا باللهجات المحلية بين أبناء القبيلة الواحدة، وباللغة العربية ما يسمى ب«عربي جوبا»، وستظل العربية هي المسيطرة والمهيمنة لعشرات السنين رغم أنف الحركة الشعبية.. اعتراف القبائل بعضها ببعض عنصر هام من عناصر الاستقرار والأمن والسلامة الوطنية التي لا تتوفر لشعب الجنوب المشحون بالتوترات القبلية والنعرات العنصرية، التي نتوقع لها أن تنمو في ظل عدم اعتراف الحركة الشعبية بالمكونات الحزبية الأخرى وسيطرة الدينكا على الموقف السياسي والأمني، مما يشعل نار الفتنة والحرب القبلية الضروس التي ستأتي على الأخضر واليابس وتجعل النزوح واجباً مرة أخرى في طريق العودة للشمال. السيطرة الأجنبية على مقاليد الأمور في كل شيء تلغي مقومات الدولة المستقلة، وتجعل الحكومة في الجنوب تمارس دور الكمبارس في فكرها وتوجيهاتها وخطابها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان وليس بالبترول وحده تقوم دولة، وعلى الحركة الشعبية وصقورها التي تملأ الدنيا ضجيجاً بالانفصال أن تعلم بأن مخزون البترول وحسب الدراسات الجيلوجية لن يبقى أكثر من خمس سنوات.إننا ندعو للوحدة الطوعية والخيار الشفاف، والالتزام بالسلام منهجاً وسلوكاً، والوفاء ببنود اتفاقية نيفاشا التي وقعها الراحل جون قرنق مبيور.. والكرة الآن في ملعب الحركة الشعبية التي تستطيع وحدها التخلي عن خيار الانفصال القهري والدعوة للوحدة التي تجنب الجنوب والشمال ويلات المخطط اللئيم للاستعمار الحديث.. ومازال هناك متسع من الوقت لنحقق ذلك معاً. ورسالتي الأخيرة.. للشعب السوداني في الشمال ولكافة الأحزاب.. ان التكاتف والتعاضد والتناصر والتماسك خيارنا الأوحد، وأن لا خوف على شعب قدَّم أرتالاً من الشهداء وصنع التاريخ وحده، وتحدى جبروت الدول الغربية الظالمة، ولم يركع إلا لله وحده ولن يتسامى إلا للعلى والمجد والسودد.