لم يعد باقيا الكثير من الوقت علي ذهاب سكان جنوب السودان الي صناديق الاستفتاء مع بداية يناير عام2011, كي يختاروا بين الانفصال عن شمال السودان في دولة مستقلة, تضم عشر ولايات جنوبية لها علم ونشيد وقوات مسلحة وتمثيل خارجي يخصها, وبين البقاء جزءا من السودان الموحد بعد أن قاربت علي الانتهاء مهلة السنوات الست التي حددتها اتفاقية السلام بين الجنوب والشمال, كمرحلة انتقالية, تجتهد فيها كل الأطراف المعنية من أجل الإبقاء علي وحدة السودان الخيار الأفضل والأكثر جذبا لسكان الجنوب الذين لهم وحدهم حق المشاركة في الاستفتاء. كان المفروض أن يتم استثمار هذه المرحلة الانتقالية في جهد مشترك, يستهدف إزالة تلال المرارة التي خلفتها سنوات الحرب الأهلية الطويلة بمآسيها الدامية, وبناء جسور جديدة من الثقة المتبادلة تقوي روابط الجنوب مع الشمال, تساعد الجنوبيين علي تجاوز إحساسهم بالتهميش والتمييز ليسود الجميع الاحساس بالمواطنة الكاملة التي تساوي بين الجميع, وكان المفروض تعويض ما فات الجنوب بالتركيز علي عدد من مشروعات التنمية, تجعل الجنوبيين أكثر حماسا لخيار الوحدة حين يحين موعد الاستفتاء.. ومع الأسف فات الأوان وقاربت المرحلة الانتقالية علي الانتهاء دون أن يبذل الطرفان الجهد الكافي من أجل الإبقاء علي وحدة الجنوب مع الشمال الخيار الأشد جذبا لسكان الجنوب, استنزفت خلافات الطرفين حول تفسير بعض بنود المعاهدة معظم الوقت والجهد, ووصل نزاعهما حول حدود الشمال مع الجنوب في منطقة أبيي المتنازع عليها الي حد تجدد الحرب والقتال مرة أخري قبل أن يقبلا الذهاب الي محكمة العدل الدولية في لاهاي, وأمضت الحكومتان, حكومة الشمال وحكومة الجنوب, معظم الوقت في نزاع وخصام يتخلله فترات جد قصيرة من المصالحة والحوار. وتكاد تجمع تقارير المراقبين علي أن انفصال الجنوب عن الشمال في دولة مستقلة هو الخيار الأكثر توقعا واحتمالا برغم المخاطر الضخمة التي يمكن أن يجلبها الانفصال علي الشمال وعلي الجنوب, وربما علي دول عديدة في القارة الإفريقية, بل ثمة ما يشير الي أن الطرفين, الجنوب والشمال, يعدان أنفسهما الآن لقبول هذه الحقيقة المرة وسط مخاوف متزايدة من احتمالات تجدد الصدام أو انتشار الفوضي, خصوصا في الجنوب نتيجة نزاعات عرقية وقبلية ومخاوف عميقة من أن تنتهي دولة الجنوب الي سيطرة متفردة لقبائل الدنكا, أكبر قبائل الجنوب إن لم تكن أكبر القبائل الإفريقية عددا علي سائر قبائل الجنوب. وما من شك في أن الجانب الأكبر من عوار الموقف الراهن يعود الي اتفاقية السلام ذاتها, التي تنطلق ابتداء من الاعتراف بحق الجنوبيين في تقرير المصير وأحقيتهم المطلقة في أن تكون لهم دولتهم المستقلة, إلا أن تصبح الوحدة أكثر جذبا لهم.. وللتاريخ فلقد كانت مصر هي الطرف الوحيد الأقل حماسا لفكرة تقرير المصير, كانت تؤثر ذهاب الطرفين الي الفيدرالية أو الكونفيدرالية بدلا من حق تقرير المصير حفاظا علي وحدة السودان الذي يمكن أن يتعرض لخطر المزيد من التفكك بانفصال الجنوب, وخوفا من أن يؤدي قيام دولة انفصالية في الجنوب الي تهديد استقرار عدد من دول القارة تعاني من نزعات انفصالية حادة بسبب مشكلات عرقية وقبلية مماثلة, علي حين قبلت كل قوي السودان السياسية, خاصة أحزاب الشمال طواعية بحق الجنوبيين في دولة مستقلة, بعضهم بدوافع دينية ضيقة قدمت أخوة الدين علي أخوة الوطن, وأصرت علي تطبيق أحكام الشريعة علي كل ربوع السودان حتي إن كان الثمن انفصال الجنوب عن الشمال!, وبعضهم الآخر ساند حق تقرير المصير خوفا من تجدد الحرب الأهلية التي استنزفت قدرات السودان وقطعت عليه مسيرته الديمقراطية, ووضعت العسكر علي سدة الحكم بسبب المضاعفت الأمنية لمشكلة الجنوب! وأيا كان الأمر, فالواضح أن القائمين علي أمر الجنوب يصرون علي أن يتم الاستفتاء علي حق المصير في موعده دون أن يتأجل يوما واحدا, ويرفضون أي تغيير يرفع نسبة الموافقين علي دولة مستقلة في الجنوب الي أكثر من الأغلبية المحددة النصف+ واحد, أيا كانت حجج المطالبين برفع نسبة الموافقين علي حدود75 في المائة, بدعوي أن الاستفتاء يتم علي قضية مصيرية ينبغي أن تساندها أغلبية مطلقة, ويهددون بحقهم في إعلان دولة الجنوب علي نحو متفرد اذا لم يمتثل الشمال لكل الشروط التي حددتها الاتفاقية, ويزيد من تمسك الجنوبيين بمطالبهم دواعي المكايدة السياسية التي حفزت بعض أحزاب الشمال التي شاركت أخيرا في مؤتمر جوبا الي مساندة مطالب الجنوبيين نكاية في حكم البشير. ومع اقتراب موعد الاستفتاء يزداد حجم المشكلات المثارة بين شريكي الحكم في السودان حزب المؤتمر الحاكم والجبهة الشعبية في الجنوب وينفجر المزيد من الخلافات بين الجانبين حول قضايا عديدة تتعلق بالتعداد السكاني وترتيبات الاستفتاء ومشكلة دارفور وخلافات الطرفين حول كيفية تطبيق حكم محكمة العدل الدولية علي أرض الواقع في اقليم ابيي التي وصلت الي حد تهديد الجنوبيين بالعودة الي المحكمة مرة أخري, كما تتزايد شكوك الجانبين في مسلك كل منهما إزاء الآخر, الجنوبيون يتهمون الشماليين بمحاولة التملص من اتفاقية نيفاشا وتفسير بعض بنودها علي نحو مراوغ, والشماليون يتهمون الجنوبيين بأنهم لم يبذلوا أي جهد من أجل جعل اختيار الوحدة أمرا جاذبا, وكل منهما يتهم الآخر بأنه بدد عوائد البترول(8 مليارات لكل من الشمال والجنوب) في شراء أسلحة لقواته المسلحة توقعا لصدام قادم, وربما يكون الانجاز الوحيد الذي تحقق أخيرا هو قبول الجنوبيين لحق أبناء الجنوب المقيمين في الشمال نحو مليونين في الاشتراك في الاستفتاء علي حق المصير بعد طول اعتراض, برغم أن هؤلاء الجنوبيين عاشوا في الشمال منذ سنوات طويلة وتصاهروا مع أهله وشاركوا في صنع تاريخ السودان. وعلي أرض الواقع, يكاد يكون انفصال الجنوب في دولة مستقلة حقيقة قائمة بالفعل, فالجنوب يدير الآن كل شئونه بنفسه ودون أي تشاور أو تنسيق مشترك مع الحكومة المركزية في الخرطوم, وتكاد تكون وزارة الحكم الاتحادي في الخرطوم اسما علي غير مسمي لا علاقة لها البتة بأي من ولايات الجنوب العشر, وغالبا ما يقضي رئيس حكومة الجنوب سلفا كير النائب الأول للرئيس البشير وقته في الجنوب لا يذهب الي الخرطوم إلا لحدث طاريء, ومع أن الرئيس البشير أعلن قبل عدة أيام أن عوامل الانفصال تتساوي مع عوامل الإبقاء علي وحدة السودان, وأنه لايزال يأمل في أن تصبح الوحدة هي خيار غالبية الجنوبيين, فإن الواضح لكل المراقبين أن الخرطوم تراود نفسها علي قبول الحقيقة المرة, وكذلك الأمر مع نائبه سلفا كير, الذي يعتقد أن عدد الراغبين في الانفصال من شمال السودان يزيد أضعافا عن عدد الانفصاليين في الجنوب! وبرغم أن خيار الوحدة لم يعد خيارا جاذبا بالنسبة لغالبية الجنوبيين, كما أن انفصال الجنوب يكاد يكون جزءا من الواقع السياسي في الشمال, لايزال البعض يراهن علي خطورة الآثار السلبية التي يمكن أن تقع نتيجة الانفصال, بسبب الخوف المتزايد من إثارة النعرات القبلية في دولة الجنوب واحتمالات نشوب حرب أهلية تتوافر كل مقوماتها راح ضحيتها هذا العام أكثر من ألف قتيل في الجنوب بما يفوق كثيرا ضحايا دارفور, إضافة الي القلق المتزايد من جانب قبائل النوير والشلك من سيطرة عناصر الدنكا التي ينتمي إليها سلفا كير علي كل مقاليد الحكم والثروة في الجنوب, ويزيد من حجم هذه المخاطر إصرار قبائل المسيرية ذات الأصول العربية علي حقها التقليدي في أن ترعي أبقارها في أرض الدنكا جنوبا خلال مواسم الجفاف, كما تفعل منذ آلاف السنين, ورفضها التخلي عن أسلحتها الكثيفة خلال مرورها جنوبا في أرض الدنكا حماية لأبقارها. وبسبب عوامل الانفجار الكامنة في الجنوب لا يتحمس جيران السودان الأفارقة الثمانية لانفصال جنوب السودان عن شماله, خوفا من تداعيات هذا الحدث الخطير علي الصراعات القبلية والعرقية داخل بلادهم, التي يمكن أن تنقل عدوي الحرب الأهلية إليها, وربما تؤدي الي تفكيك بعض الدول الإفريقية المهمة خاصة إثيوبيا التي يتهدد أمنها الداخلي صراعات قبائل التجراي والأرومو والأمهرا. وما من شك في أن انفصال الجنوب عن الشمال يمكن أن يرفع سقف مطالب أهل دارفور الي حد المطالبة بدولة مستقلة, خصوصا مع تعذر الوصول الي تسوية سياسية في القريب العاجل بسبب الانشقاقات المتتابعة داخل حركات التمرد التي انقلبت الي نوع من الفوضي المدمرة, وغياب وفاق حقيقي يصلح العلاقات بين تشاد والسودان من جذورها, وتضارب رؤي الدول الست التي ترعي المباحثات بين الخرطوم وقوي التمرد في دارفور, وما من شك أيضا في أن مخاطر التفكك التي تحدق بالسودان بسبب أزمتي الجنوب ودارفور سوف تؤثر علي اتزان القارة الإفريقية لأنها تهدم حدودا تم تخطيطها خلال فترة الاستعمار, اصطلح القادة الأفارقة منذ نشأة منظمة الوحدة الإفريقية علي احترامها لكيلا تنفجر الحروب القبلية التي تهدد أمن القارة السمراء. وبالطبع تفرض هذه التحديات علي مصر موقفا واضحا, لأن أمن السودان يشكل جزءا من الأمن القومي المصري, يلزمها أن تعمل من أجل الإبقاء علي وحدة السودان الي آخر لحظة, وكأن الانفصال حدث يستحيل وقوعه, ويلزمها في الوقت نفسه, أن تحافظ علي علاقات صحيحة وقوية مع شمال السودان ومع جنوبه إن وقع الانفصال, لا قدر الله, لأن جنوب السودان بمعزل عن شماله يفتقد مقومات الوجود والاستمرار والنمو.. وتستطيع مصر أن تفخر بأنها الدولة الوحيدة التي بذلت أقصي ما تستطيع من أجل جعل وحدة الجنوب مع الشمال عنصرا جاذبا للجنوبيين, أنارت مصر4 مدن جنوبية بالكهرباء, وأقامت مستشفي ميدانيا يخدم أهل جوبا ويخدم نخبتها, وهي تبني الآن عيادة ومدرسة كبيرة في كل من ولايات الجنوب العشر اضافة الي الجامعة التي سوف تبدأ بكليتين تفرضهما احتياجات الاقليم, كلية للزراعة وكلية للطب البيطري, لكن اليد الواحدة مهما تفعل لا تستطيع وحدها أن تصفق! والأمر المؤكد أن مصر تفعل ذلك حفاظا علي دور السودان ووحدته, لأنه ليس لمصر في الجنوب أو الشمال مصلحة منفردة يمكن فصلها عن مصلحة السودان شماله وجنوبه علي حد سواء, سواء تعلق الأمر بوضع الدولتين باعتبارهما دولتي المصب لنهر النيل تربطهما مصلحة واحدة وموقف واحد, أو تعلق الأمر بقناة جونجلي التي يتقاسم منافعها مصر والسودان شماله وجنوبه, ليس فقط بالنسبة للزيادة المتوقعة في الموارد المائية التي تتقاسمها الدولتان ولكن في التغير الضخم الذي سوف يطرأ علي الحياة في منطقة المستنقعات في جنوب السودان بما يزيد فرص استقرار المجتمعات هناك, ويحفظ لبيئة المكان شروطها الصحية, ويمكن الرعاة والزراع في هذه المناطق من تطوير حياتهم الي الأفضل. الكاتب : مكرم محمد احمد ، نقلاً عن العربية نت