أيام.. وتمر الذكرى الثالثة لرحيل الفنان محمود عبد العزيز.. ترتيبات واجتماعات تشهدها الساحة الخضراء بالخرطوم والطابية بأم درمان، للمئات من شباب المجموعات التي تحمل اسمه، (الحواتة)، (محمود في القلب) و(أقمار الضواحي)، جمعهم حب فنانهم الذي أسموه (الحوت)، وأسماه الواقع الفني (الأسطورة)، تنسيق هنا وهناك لإخراج حفل الذكرى بما يليق وصاحبها، المكان هو استاد المريخ مسرحاً للإحتفالية الكبرى يوم 17يناير . صرخة الميلاد: في يوم الإثنين الموافق 16 من شهر اكتوبر من العام 1967م انطلقت من عنبر الولادة بمستشفى الخرطوم بحري صرخة مولود جديد، هو البكر عند والده عبد العزيز محمد علي أبو عون ووالدته الحاجة فايزة محمد الطاهر، وانطلقت مع تلك الصرخة زغاريد الفرح التي ما درى من أطلقنها، أن القادم الجديد للحياة سيشغل الناس كثيراً وسيكون أسطورة زمانه، والقائد الملهم لكثير من الشباب . النشأة: في حي المزاد بالخرطوم بحري، نشأ وترعرع محمود في طفولة عادية جدا، ككل الأطفال، وقد نشأ ضمن أسرة بسيطة يحفها حنان ورعاية الجد الحاج محمد طاهر، والجدة الحاجة نفيسة، ووالدته الحاجة فايزة، ووالده الحاج محمود، لفت الأنظار بسرعة بديهته وحفظه للعبارات التي يسمعها وهو ما زال ابن السنوات الثلاث، وأبدى عشقاً واضحاً للتميز من خلال وضع (مساند الكراسي) كمسرح، والصعود عليها وتقليد الفنانين الكبار، وواصل ذلك بروضة (الحرية) بالحي، حيث كان من حفظة وتلحين الأناشيد، بعدها انتقل إلى مدرسة الحرية الابتدائية، وهذه الفترة شهدت نمو موهبته في التمثيل وبداية المشوار، ذهب الطفل الصغير إلى التلفزيون للمشاركة في برنامج إلأطفال، حيث كانت تستصحبه والدته كل يوم جمعة تلبية لرغبته، وداخل الحوش الكبير التقى بيوسف عبد القادر الممثل الشهير الآن، وعفاف حسن أمين الإعلامية المعروفة حالياً، وعبد الباقي خالد عبيد الصحفي الشهير.. ومن بينهم شاهده الممثل الكبير محمد شريف علي، فأشاد بشجاعته والموهبة التي يتمتع بها، بعدها شارك في مسرحية (امي العزيزة)، ولفت الأنظار إليه وبدأت الإرهاصات الأولى بمولد فنان له شأن. الكشاف الأصغر: هذه البدايات المشرقة لطفل مبدع عشق الفن وتعمق في داخله، عندما بدأ يتغنى بأغنيات نجم الدين الفاضل، وحمد الريح، وأحمد المصطفى، وكان عمره لم يتجاوز السنوات التسع، بعدها سنحت له الفرصة ليقف لأول مرة على خشبة المسرح ليغني أمام الجمهور، وكان ذلك في احتفال (المجلس الريفي) سابقاً محلية بحري حالياً.. وكان يغني بآلة الرق، ومصاحبة كورس، فلفت الأنظار إليه، وصفقت له الجماهير طويلاً، وحظي بجائزة السيد المحافظ التي كانت عبارة عن مجموعة من الدفاتر المدرسية، والأقلام، والزي المدرسي، ومبلغ مالي... وفي أواخر عام 1975 م شارك في حفل الكشافة البحرية، الذي حضره رئيس جمهورية السودان وقتها الراحل المشير جعفر نميري، والذي لم يخف إعجابه به وقلده وشاح الكشاف الأصغر، بعدها التحق محمود بالمدرسة الأنجيلية المصرية بالخرطوم، وظل مواصلاً لنشاطه الفني حتى التحق بالدفعة الثامنة في قصر الشباب والأطفال بام درمان- قسم الدراما- وشهدت هذه الفترة التعامل مع الأعمال والكتاب والناس. في منزل ابن البادية: ارتبط محمود في صباه بعلاقة صداقة قوية مع نجلي الفنان الكبير صلاح بن البادية، حسن والشيخ، وبحكم مرافقتهما لوالدهما في الحفلات كعازفين في فرقته، لم يجد محمود غير أن يعمل كفني (ساوند) مع الفنان الكبير، أتاحت له هذه الصداقة وهذه المهنة أن يقيم لشهور طويلة في منزل الفنان الكبير مع صديقيه. في العام 1974 التحق الأصدقاء الثلاثة بمركز شباب الخرطوم بحري، وفيه التقى برفقاء الدرب عبد الله كردفاني، عبد الواحد البدوي، إبراهيم أبو عزبة، صديق أحمد ومهدي مصطفي الحميدي عازف الترمبت، وبدأت الموهبة في النضوج، وكان من حسن حظه أن اسمتع إليه الفنان صلاح بن البادية فأعجب بصوته، وقدم له النصح وإلإرشاد والرعاية بحكم صداقته لنجليه حسن والشيخ، وفي هذا يقول محمود: لكل حوار شيخ وصلاح بن البادية هو شيخي الذي أخذت منه الطريق. بعدها ظهر محمود من خلالها كمطرب لا تهمه المادة بقدر ما يهتم بإشباع هوايته، وأن يزرع الفرح في كل مكان، ساعده في ذلك أبناء جيله من العازفين الذين تعاملوا مع الموسيقى باحترام، وفي فترة وجيزة لمع اسم محمود عبد العزيز كفنان، وفي الفترة مابين 1988م حتى عام 1994 كان يغني في الحفلات العامة وواصل رحلة الإنطلاق والمجد الفني، قدم فيها الكثير من الأعمال الفنية والألبومات من أشهرها البوم (سكت الرباب)، (نور العيون)، (ماتشيلي هم)، (برتاح ليك)، (شايل جراح)، (ساب البلد)، (اكتبي لي)، (الحنين)، (خوف الوجع)، والعديد من الالبومات الأخرى. في عروس الرمال: واجه محمود عبدالعزيز بعض الصعوبات والمضايقات من بعض الذين استخدموا سلطاتهم في التربص به، الأمر الذي جعله يهاجر إلى الأبيض، ويعيش فيها سنين، وشهدت المدينة زواجه الأول من إحدى فتياته التي أنجبت له توأماً، كما فتحت له الأبيض الأبواب على مصراعيها، حيث تبناه الأساتذة بفرقة فنون كردفان، ومقرها الأبيض أمثال يوسف القديل والكردفاني، وكانت بداياته الفعلية في ليالي أعراس مدينة الأبيض، ومن عروس كردفان كانت الانطلاقة، ليعود بعدها للخرطوم ويواصل نشاطه الفن حتى أصبح فنان الشباب الأول دون منازع، وحوتاً يبتلع أي فنان يقف أمامه، حتى قال فيه الإعلامي الراحل محمود أبو العزائم (محمود عبد العزيز غير من مقولة سمح الغنا في خشم سيدو، بعد أن أصبحت أغنيات الفنانين الآخرين سمحة في خشمه)، وأطلقت عليه الجماهير لقب (الحوت)، بعد أصبح الفنان صاحب جماهيرية، وهذه الجماهير المحبة لفنه اتخذت مسميات ومجموعات مثل (محمود في القلب)، (أقمار الضواحي)، و(الحواتة)، وكلها اجتمعت على عشق فنه والتأثر به. زيجاته والشائعات: عاش محمود حياة عادية وبسيطة بعيداً عن الزخم الذي يجده في حفلاته والشارع العام، وعرف عنه أنه صاحب دموع (قريبة) يبكي تأثرأ لأي مشهد إنساني يمر به، وكان دائماً ما يقدم مساعدته لكل من يطرق بابه، ولا يتحدث بذلك حتى لأقرب الأقربين له، وحفلت حياة الحوت الخاصة بالعديد من الشائعات، ومن بين تلك الشائعات زيجات الحوت المتكررة، والتي دارت حولها شائعة قبل سنوات قيل إنها بلغت (15) زيجة.. وهذا الأمر غير صحيح، حيث تزوج ثلاث مرات، وأنجب عدداً من الأبناء هم (مصعب، وحمزة، والعباس، وحاتم، وحنين، والقصواء)، بينما كان يضرب جداراً سميكاً ما بين حياته الخاصة وفنه، وباستثناء زواجه من حنان بلوبلو، والذي تناقلته الكثير من وسائل الإعلام، من جانبها أكدت بلوبلو أن محمود يعتبر صاحب أطيب قلب في العالم. فنان الحكومة والمعارضة: غنى الحوت في مناسبات الحكومة مثلما غنى في حملة ياسر عرمان الانتخابية، وهو المعارض العتيد، وفي حفل استرداد هجليج، فمحمود يغني حيثما أحس بأن الحزن اغتال الحسن في أفئدة الناس، يغني ودون اعتبار للمناسبة، لعله يعيد بعض مفقودات إنسان السودان الرحيل المر: التاريخ 17 يناير من العام 2013 سيظل محفوراً في ذاكرة جمهور الفنان الأسطورة محمود عبد العزيز، وأصبح هذا التاريخ مناسبة تحتفل بها جماهيره سنوياً بذكرى الرحيل المر، فقد رحل محمود بالعاصمة الأردنيةعمان، بعد أن تم نقله من إحدى مستشفيات الخرطوم الخاصة، كان قد مكث بها ثلاثة أيام في معاناة مع المرض، بعد حالة ترقب وأمل طويلة، الألسن تلهج خلالها بالدعاء، والقلوب تسأل مالك القلوب شفاء مطربهم المحبوب، وظل الناس مشغولين بأخبار مرضه، بين مصدقين ومكذبين، هل تغيب الظاهرة المسماة (محمود عبد العزيز)، حتى نعى الناعي أسطورة الفن السوداني ليتم احضار جثمانه من الأردن عبر طائرة خاصة، وفداً رفيعاً تقدمه الفريق عبدالقادر يوسف مساعد المدير العام للتوجيه السابق بجهاز الأمن والمخابرات الوطني، في منظر لم يشهده مطار الخرطوم ولا شوارع العاصمة من قبل.. مات الأسطورة ووري جثمانه ثرى مقابر الصبابي بالخرطوم بحري يوم الخميس.