بدا واضحاً في ماعرف بوثيقة الفجر الجديد ثم وثيقة أديس ابابا.. ووفقاً لاتفاق حركتي عبد الواحد محمد نور ومناوي لتشخيص الأزمة الوطنية، بحسب برامجها السياسية، علي أن يكون النظام الفيدرالي كبديل للنظام المركزي، والعلمانية وفصل الدين عن السياسة، وأيضاً الوحدة الطوعية، وحق تقرير المصير لكل أقاليم السودان، وبهذاالاتجاه ثبت فعلياً على أدبيات هذه الحركات المسلحة. تقرير المصير كواقع في السياسية السودانية: لم يطرح حق تقرير المصير للجنوب للمرة الأولى في اتفاق نيفاشا، فقد ظلت بعض الأصوات تطرحه منذ الاستقلال، لكنها أصوات خافتة غير مؤثرة، لذلك لم ترد الإشارة إليه في كل المواثيق والاتفاقيات الخاصة بمعالجة مشكلة الجنوب، حتى في الطور المنظم للحرب الذي قادته الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق بعد 1983 وقد خلا اتفاق الميرغني قرنق 1988 من اي إشارة بهذا المعنى، لكن تغير الحال بعد انقلاب الثلاثين من يونيو1989 مع تغير استراتيجية حل المشكلة، واختيار نظام يونيو لخيار الحسم العسكري خلال بضعة أشهر حسب وعد الانقلابيين في بياناتهم وخطاباتهم الأولى، هذه الاستراتيجية لم تؤدِ إلا الى تأجيج الحرب الأهلية خاصة مع ارتفاع نبرة الخطاب الديني وتحويل الحرب الأهلية الى جهاد، مما ولد ردود أفعال سياسية في أوساط الحركة الشعبية وبروز مجموعة متطرفة تطالب بحق تقرير المصير، وهي المجموعة التي انقسمت لاحقاً بقيادة رياك مشار، ولام اكول، واروك طون، وعرفت بمجموعة الناصر، ولما كانت استراتيجة النظام تقوم على الحسم العسكري، فقد عمد الى تعميق انقسام الحركة لإضعافها من الداخل تمهيداً للانقضاض عليها، وفي هذا الاتجاه لجأ الى مناورة سياسية غير محسوبة نتج عنها اتفاق سري في فرانكفورت1992 بين وفد الحكومة الذي قاده علي الحاج ومجموعة الناصر، وفي هذا الاتفاق تم النص علي إعطاء الجنوب حق تقرير المصير لأول مرة في تاريخ السياسة السودانية، كان اتفاق فرانكفورت مناورة غير محسوبة ومحدودة الأفق، لأن النظام أراد تحقيق هدف تكتيكي محدود واستخدام أدوات سياسية استراتيجية تفوق حاجة التكتيك بكثير، ولا يشفع للنظام عدم نيته الالتزام بالاتفاق لأنه عملياً فرض على السياسيين الجنوبيين بشكل عام، وجناح قرنق آنذاك سقفاً سياسياً عالياً لا يمكن النزول عنه لأي سياسي جنوبي يريد أن يحظى بقدر من التأييد الجنوبي، ومنذ اتفاق فرانفكورت أصبح تقرير المصير أمراً واقعاً في السياسة، وجاءت مبادرة الإيقاد في عام 1994 لتكرس هذا الحق في إعلان المباديء الذي رفضته الحكومة مؤقتاً، رغم أنها هي التي طلبت من مجموعة دول الايقاد التوسط بينها وبين الحركة الشعبية، وعندما عقدت قوى التجمع الوطني مؤتمر القضايا المصيرية باسمرا عام 1995 لم تكن هناك اية فرصة للحفاظ على الحركة الشعبية والقوى الجنوبية الأخرى ضمن التجمع الوطني الديمقراطي، دون إدراج حق تقرير المصير كما لم يكن من الممكن حرمان حليف معارض من مكسب حصل عليه من السلطة الحاكمة فعلياً، والتي بمقدورها إنفاذ هذا المكسب مدعومة اقليمياً ودولياً، وخاصة وأن النظام عاد وقبل بإعلان مباديء الإيقاد عام1997 مفسحاً الطريق لتوقيع اتفاق مشاكوس الاطاري2003 والاتفاق النهائي في نيفاشا عام 2005 هذه المحطات الرئيسية التي جعلت تقرير المصير أمراً واقعاً في السياسة السودانية، المغزى السياسي لدخول حق تقرير المصير في السياسة السودانية كأمر واقع، هوان العلاقة بين الشمال والجنوب، فقد وصلت درجة من التأزم والتوتر بحيث لم تعد الصيغ السابقة مثل الحكم الذاتي والفيدرالية ذات جدوى في حل المشكلة، فالحكم الذاتي قام نظام مايو باستهلاكه واستنفاد طاقته وإفراغه من محتواه، وفي الأخير أطلق من رحمه شرارة الطور الثالث من الحرب عام 1983، أما الفيدرالية فقد حولتها الإنقاذ الى هياكل بيروقراطية فاقدة الروح والمعنى ومحرك للصراعات الجهوية والقبلية، وبالوعات لامتصاص مقدرات البلاد وحاضن للفئات الطفيلية، المهم بعد اتفاق فرانكفورت ومبادرة الإيقاد لم يكن هناك بديل آخر لتقرير المصير غير الاستمرار في الحرب، كان من الممكن لمسار السياسة السودانية أن يصل لحلول أخرى بعد اتفاق الميرغني قرنق 1988 لكن اختيارات نظام يونيو السياسية والعسكرية كان محتوماً عليها أن تصل الى ما وصلت إليه اليوم. التوظيف السياسي لحق تقرير المصير بشكل عام، يعتبر أن التكوين العام للنزاعات الأهلية، ومشاكل الأطراف والمركز تغذيها تدخلات الابعاد الداخلية والخارجية، فالأول مرتبط بالتعاون الاجتماعي والاقتصادي، والتمايز السياسي في إطار المجتمع الداخلي للدولة، أما البعد الخارجي فيتمثل في سياسات القوى الكبرى الهادفة الى تكريس حالة التجزئة من خلال استغلال التناقضات الداخلية في المجموعات السكانية المختلفة، بما يضمن عنها التحكم في اتجاهات مستقبلها، ولذلك سعت الدول الغربية تخطيطاً بوضع استراتيجيات لإدارة التغيير وتحقيق أهدافه المطلوبة، بتحريك وتوظيف مكونات السياسة السودانية المحلية والإقليمية، مستفيدة من المصالح المتضاربة، وضعف الحس الوطني عند كثير من الجماعات السياسية في الداخل، عموماً بدأت المحاولات منذ انقلاب الجبهة الإسلامية في يونيو(1989) من توظيف المحكمة الجائية الدولية في عام ( 2003) والمسارعة في تحقيق الانفصال، كما تم في الجنوب، تبقى الخلاصة أن الهدف الغربي سيظل قائماً، وستزداد حساباته أكثر تعقيداً على خيار حل الأزمة الوطنية، فالولايات المتحدة في محاولتها إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بإنشاء دولة جنوب السودان، كما تأتي أيضاً على رأس قائمة الأطراف الخارجية التي استخدمت معاناة السكان في دارفور ذريعة لممارسة مزيد من الضغط على السودان للتمهيد لتجزئته وتقسيمه، وهكذا يمكن القول إن النزاع في دارفور متعدد الأسباب والدوافع، ولا يمكن تبسيطه قولاً إنه صراع عرقي بين العرب المسلمين والأفارقة غير العرب المسلمين، أنه صراع مصالح في الدرجة الأولى، صراع على الثروة السلطة، صراع على الموارد والمكاسب السياسية، فحكومة المركز في الخرطوم قد استأثرت بالنفوذ واستثمرت موارد الدولة لخدمتها منذ الاستقلال حتى الوقت الحاضر.