الأزمة في دارفور أخذت النصيب الأكبر والحظ الأوفر في النقاش داخل مؤتمر الحوار الوطني، لما تحمل من تداعيات محلية وإقليمية وعالمية، لم تخلُ ورقة من الأوراق التي قدمت للجنة من ذكر الأزمة التي لازمت ذلك الإقليم، وعلى سبيل القصر وليس الحصر شملت الأوراق أربعة أسئلة رئيسة تعطف معها الإجابة.. أولاً، ما هي الأسباب الحقيقية للأزمة في دارفور؟ ثانياً، ما هي الإنعكاسات (السياسية والإجتماعية والاقتصادية والامنية للازمة؟).. ثالثاً ماهي التحديات التي تواجه الحل؟ (داخلياً وإقليمياً وعالمياً).. ثم رابعاً، ماهي آليات الحل؟ في شأن السؤال الأول، هنالك عدة أسباب، لكن أشارت جل الأوراق الى التهميش، فلم تجد الولايات الطرفية عامة ودارفور خاصة إهتماماً، ولم تجد حظها كاملاً من المسؤولين الذين تعاقبوا على الحكم، ولم تراعِ خصوصية الاقليم الجيوسياسي والاجتماعي والتاريخي حتى تعقدت المسائل شيئاً فشيئاً ،وتفاقمت الأوضاع وتأزمت حتى أصبحت حلولها صعبة المنال والمسائل الصعبة لا تزعن للحلول السهلة.. إن خصوصية الاقليم تكمن في البعد التاريخي والجغرافي والثقافي، وقد كان الاقليم مستقلاً عن السلطة المركزية التي ضمت أطراف السودان بالقوة عام 1821 م، ولم يتحد معها الاقليم إلا بعد مرور أكثر من نصف القرن، أي عام 1874م ثم نأى الاقليم عن المركز مرة أخرى، عندما هزمت جيوش المهدية عام1898م وظل بعيداً عن السلطة المركزية طيلة ثمانية عشر عاماً حتى ضُمّ عنوة عام 1916 بعد مقتل سلطان الاقليم علي دينار.. هذا لا يعني مطلقاً أن هناك نزعة لاستقلال الاقليم عن المركز، بل كان الاقليم في السابق هو الأسرع إجابة لنداء الدولة السودانية الوطنية الأولى بقيادة الامام محمد أحمد المهدي1881م. لم يعد الاقليم بعيداً عن المركز جغرافياً فحسب، بل صار بعيداً أكثر بسبب عدم ربطه بوسائل الاتصال والمواصلات من طرق عابرة وسكك حديدية، فطبغرافية الأرض هناك من رمال وكثبان في الشمال، والوديان والخيران في الجنوب، تعيق الحركة فيضعف بين الناس الاتصال. أما الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نتجت من جراء هذا، فقد تقزمت العلاقات الواسعة وصغرت الأسرة وأصبحت القبيلة هي الواجهة الاجتماعية، حيث لا نصير للمواطن من قبل حكومة رشيدة تعتني به وتكفله بالرعاية والعناية والتعهد، وتوفر له الأمن ليتكفل بكسب سبل عيشه ولم توفر له سبل التعليم ليرتقي السلم الذي وضع بنفسه حجر أساسه (الكتّاب والخلاوى) . أما الانعكاسات الاقتصادية فلم يعد هنالك اقتصاد الريف بسبب نقص الطاقة المعينة للإنتاج وندرة الوسيلة الناقلة للمنتج الى مناطق الاستهلاك، ولا توجد مصانع صغيرة في تلك المناطق النائية مثل مصانع الصابون والزيوت والتعليب للفواكه الكثيرة، ولا توجد مطاحن للغلال ولا بنوك للحبوب تحفظ الإنتاج المحلي درءاً للمسغبة، ولا يوجد إرشاد زراعي وإرشاد لتكثير وتحسين سلالة الماشية... أما الانعكاسات الأمنية خاصة في الآونة الأخيرة، فلم يعد هناك للمواطن من نصير ينصره من غاشم أو ظالم، وإذا استنجد بالحكومة إن وجدت تخاصمه الحركات المسلحة من جراء موقفه هذا، وإذا استنجد بالحركات المسلحة الموجودة والمنتشرة ترصده الحكومة وتتخذه عدواً لها، فهو في حيرة من أمره، ولا مناص إلا أن يركن الى القوة القريبة منه يطلب الأمن والسلامة شأنه شأن الأرنب الذي يركن لأقرب ظل يحميه من القيظ.. هذه الحالة غير الطبيعية أوجدت مناخاً آخر لدى الشباب، خاصة المتسلحين بشيء من العلم والمعرفة والطامحين الى وضع أفضل مما هم فيه، يريدون أن يدفعوا هذا الواقع المزري عن الأهل والعشيرة، وهم لم يجدوا عملاً بعد التخرج من الجامعات والمعاهد، فقد ضاقت عليهم فرص العمل وشروطه التي تشمل حتى اسم القبيلة، فاندفعوا الى معسكرات تدريب الحركات المسلحة زرافات ووحدانا، يتدربون على مقاومة الحكومة التي بعدت عنهم وتركتهم لحالهم، وهم شباب لهم من الطموحات المشروعة والملحّة . أما التحديات التي تواجه الحل داخلياً واقليمياً وعالمياً، فأهمها الوضع الداخلي على الإطلاق، وفي المقدمة نكران الذات، وأن يتواضع أهل الرأي وذوو الحجا والمسؤولون عن معاش الناس من أهل الحكم والإدارة أن يضعوا نصب أعينهم كيف يكون حكم السودان الذي يكفل للناس العدل والمساواة وكيفية إيجاد المعادلة السليمة بين الحرية التي تجلب الأمن والأمن الذي لا يلغي الحرية، وأن تكون هنالك إرادة سياسية وشفافية، وأن يحارب الظلم ويظل محارباً دوماً ومحرماً بين الناس كافة، وأن يحارب الفساد بدءاً بالفساد السياسي في شتى شعابه.. أما اقليمياً فسياسة حسن الجوار تأتي في المقدمة، فكثيراً من قبائل دارفور لها أهل وعشيرة مع قبائلها القاطنة في الدول المجاورة، ولم تفصل بينهما حدود طبيعية أوخرائط سياسية.. يجب أن تكون القبائل هذه أداة ربط وعنصر إيجاب، أما عالمياً فمتى ما استقام عود الداخل يستقيم معه ظل العلاقات الدولية، ولن تجد الدول التي تبحث لها سبباً للتدخل في شأننا الداخلي عذراً أو مندوحة. أما آليات الحل فيجب أن يكون الإطار القومي الواسع هو المعيار، فلن يقتصر حل أزمة دارفور على مكيال خاص بدارفور، بل يجب أن يشمل السودان بأسره إلا من ميزة إيجابية في البنى التحتية لتلحق بالركب، وما سوى ذلك فله ما للآخرين وعليه ما عليهم سواء بسواء، وتترجم كل المعاني والمغازي التي تحكم أسس الحكم والإدارة في بند يوضع في صلب الدستور. أما المطالب الأخرى فشأنها شأن مطالب بقية الولايات الطرفية، أما القضايا الكبرى مثل الأراضي والديار والحواكير والإدارة الأهلية، وتداعيات محكمة الجنايات الدولية وغيرها فسوف أفرد لها مجالاً وأوفيها حقها ضمن سلسلة المقالات التالية إن شاء الله.