عندما تأتي الخزرجية في الليل، يهتف النسيم.. البدوية تنسُجُ فِخاخ الطلح بعد المغيب.. الوجدُ لا يكون مستحيلاً، إلا بعد أن يكون حقيقة ماثلة.. هذه امرأة واضِحة المعالِم.. جيدها الأبنوسي، وحشاها الضامِر، ينبئان أنها لم تلد، ولم يكن لها شأنٌ مع أحد.. هذه الأُنثى رشيقة مثل بندقية صيد..! في هذه الزاوية من بلاد العرب، أفتقد نساء من شاكِلة مدام جندي، تلك المرأة المُتغلمِنة التي رأيتها في القاهرة.. النساء هنا، يشِحنَ الطريق بنصف عين.. يتدثرن بقماش كالدّمورية.. عندما تُيامِنُ الجماهيرية، بعلها أو ابنها في سيّارة، فإنها تقبع في المقعد، مثل كومٍ من الحَصَى..! حذرني السوّادون من هذا الوحيح، ومن ذاك (اللّول)، ومن أشياء كثيرة، ضمن قائمة المحظورات.. جاء في سيل الوصايا: (لا تُحادث مِفتاحاً إن كان في صحبة امرأة.. البدوي في ذاك الحال، يكون مُدلهمّاً وقابلاً للاشتعال، وسيأخذ حديثك كالتّجنِّي)..! ربما أدقُس، وأنسى محاذير السياسة، أمّا ما يتعلّق بالأنثى، فهو لا يُنسى..! تلكأ الشتاء في الرحيل.. راديو الشّاحِنة، أذاع أخباراً دامية عن إبادة الصرب لآلاف البوشناق في سريبرينيتسا.. كان الشبل الأكبر لربّي يأخذني في ذلك اليوم، إلى مقطوعية للعِتالة في ضاحية (ضَي القَمَرَا).. قال ربّي، أن له بضاعة هناك، عند أخيه، وأن عليّ أن أشحنها.. الناتو يجدد القصف على سراييفو.. قال النبأ إن المجزرة قادها رجل يدعى كراديتش، وآخر له اسم غريب، مثل وقع (فرانكشتاين) على الحشا.. مررنا على سهلٍ من النّال، والنخل، وشجر الزيتون.. الزنابق ومناقير الطير، تُعلن عن قدوم الربيع.. ابتعدنا عن مدينة الزاوية مقدار نصف ساعة.. قال الشبل، كأنّه يسرّني ببعض خلجات روحه الخفي.. قال إن ليبيا قبل الحصار، كانت (باهية). كنت ساهماً عنه، في البراح والطيور وروائح الندى.. ربّما أغراه صمتي فتشجّع أكثر، حتى جاء على ذكر حظر الطيران فوق سمائهم، بعد سقوط طائرة (لوكربي).. *وأنا مالي..؟ قلتها بوضوح.. هذا الشِّبل.. كأنه يحفّزني بعينيه، كي أعاونه على ذلك بشيء.. بشيء من محافير..! لمّا رأيت الإحباط على وجهه قلت: (نحن أيضاً محاصرون ومحظورون عن التواصل مع الكثير من بلدان العالم.. والفرق بيننا وبينكم، هو أن حكومتنا، براها قالت: ما دايرين دقيق فِينا)..! كَضَمِ الشبل بعد ذلك.. قَنِعْ مِنِّي ظاهراً وباطناً عندما سمعني أقول، إنني لا أفهم السياسة، ولا أعرف الجهاد، ولن أكون ثورجياً كالمقراحي وفحيمة..! سكّر الشِّبل فمه تماماً، ولا شيء أطيب من هذا.. لا شيء بينه وبيني في تلك الساعة، غير أنّه يقود الشاحِنة التي أمرني الرّب بتحميل العِبء عليها.. عندما يصل الشِّبل إلى عشيره، دعه يستعرضني، كأحد مقتنياته الثمينة.. حين وصلنا الدّار، كان الشِّبل يُدرِك أنّ حدّه عند العتبة.. لقد سقاه عمّه القهوة في خشم الباب، وفتح لي باب المخزن، لأبدأ شُغلي. بهذه العجلة اختتمت مراسم زيارة الشبل.. لم (يشبح) بناويت عمّه.. لم يدخل البيت أصلاً، وهذا ما يحدث في أرقى العوائل. وبدأت شُغلي.. هذه الكراتين خفيفة جداً يا سيدي..ماذا في جوفها؟.. إنّها خفيفة عليّ، وليست كالأخياش التي عهدتُها.. أطلق الربيع نذارة من الغيم.. أزاهير البرية تكسو حواف المجاري وشقوق الحيطان، وبعض التونسيات يمشين الخطى أحراراً، في شارع عُمر المُختار.. صبايا البورقيبة سافرات.. لايتبلّمن أبداً..! صادفنا بعضهن أمام المحال التي تبيع شطائر التونا والدّحي.. كان الشبل يغازلهن كاشفاً عورته للسُّلُطات التي هي في خِدمة الشعب.. كان يضرخ دون حياء حين يحاذيهن بالشّاحِنة: (ظ.. على ظ.. ورِك)!.. كان يمسك المِقوّد، ويمُدَ رأسه خارج الشاحِنة، ويتحاكك قريباً من إحداهنّ، ويقول: (قداّش لون فرعتِك)..!؟ وأنا مالي؟.. أنا عتّالي.. أنا حمّال.. سأرُص بِضاعة ربِّي في المخزن، وأحفظ هذه العبارة، وأسأل عنها السوّادين بعد هدوء الأحوال.. هذه (الفرعة)، ماذا تحمل في جُعْبَتِها..؟! تضاحك السوّادون كثيراً.. تضاحكوا عندما قلت لهم، إن الشبل غازل بناويت الحبيب، هامساً لإحداهُنّ بقوله:(قدّاشْ لون فَرْعَتِكْ)..!؟ ما معنى هذا، يا رِجال..!؟