أبداً لم تجيء تلك الخطوات التي كشف عنها وزير الخارجية في مطلع الشهر الماضي في ندوة ( العلاقات السودانية الأمريكية) بمركز دراسات المستقبل، اعتباطاً عن عدم الممانعة الحكومية لدراسة إمكانية التطبيع مع إسرائيل، والقطع بأن السودان لا يرهن علاقاته بدولة على حساب أخرى في رده على سؤال الباحث الجنوب سوداني د.عبدالله دينق نيال، عن (موانع فتح قضية التطبيع مع إسرائيل هل لها دور في تعقيد العلاقات السودانية الأمريكية). إذا كان لنا أن ندرك أن دلالة معطيات قضية التطبيع مع إسرائيل تشي به جديد الإستراتيجية الأميريكية تجاه السودان منذ أكتوبر 2009م ضمن إستراتيجية أوسع للإدارة الأمريكية تجاه أفريقيا والمنطقة العربية، حول المحاور الرئيسية التالية: أ/ الالتزام تجاه إسرائيل وأمنها ووجودها دون أي تغييرات في الموقف الأمريكي التقليدي الداعم عسكرياً وإستراتيجياً، والعمل على دفع ملف السلام والتطبيع انطلاقاً من هذا المنظور. ب/ تقليص العمل العسكري وتركيزه على أفغانستان وإبقائه حاضراً تجاه إيران، لسبب وجود أهمية الوجود الأمريكي في المجال الحيوي لروسيا والصين، وأهمية سياسة عزل واحتواء إيران كجزء من تعزيز هذا الوجود، وجزء من الالتزام التام تجاه إسرائيل. ت/ بسط الاستقرار في مناطق النفوذ الأمريكي في أفريقيا كطريق قصير وأقل كلفة للحفاظ على هذا النفوذ، وتوسيع هذا النفوذ على حساب فرنسا وبريطانيا حتى لو اقتضى الأمر لحروب الوكالة القبلية الجهوية، ضمن هذا الإطار جاءت الإستراتيجية الخاصة بالسودان لتحقيق الأهداف الآتية: 1/ العمل على تحقيق الاستقرار في السودان على اعتبار أن سوداناً غير مستقر يمثل تهديداً لجيرانه، حيث إن الاضطرابات فيه سوف تنتقل عاجلاً أم آجلاً إلى دول الجوار. 2/ دعم تنفيذ نيفاشا كمدخل لاستقرار الأوضاع بين الشمال والجنوب، واستقرار الجنوب نفسه الذي يهم الولاياتالمتحدة التي وضعت يدها في منطقة البحيرات المتاخمة بعد سنوات من الحروب العرقية. 3/ العمل على تحقيق السلام في دارفور والمنطقتين ودعم الجهود الرامية إلى ذلك. 4/ حماية المدنيين في دارفور من الإبادة الجماعية والعمل على حشد جهود المجتمع الدولي في هذا الاتجاه. 5/ دفع السودان للتخلي عن رعاية الإرهاب، وهو يمثل جوهر ما يطرح من تطبيع مع إسرائيل، التخلي عن الإرهاب هي صياغة مغزاها الحقيقي جر السودان بعيداً عن محيطه العربي والتزاماته القومية وموقفه من الحق الفلسطيني، إن سياق الأدوات الرئيسية لتنفيذ هذه الإستراتيجية هو التعاون مع السودان لأجل تحقيق السلام والاستقرار، تقديم حوافز اقتصادية للحكومة تشجعها على المضي في هذا الاتجاه، استخدام سياسة الردع تجاه الحكومة لتوجيه مسارها وإجبارها على السير في طريق أهداف الإستراتيجية، فالإستراتيجية تقايض الاستقرار في البلاد من خلال دور ضاغط للولايات المتحدة على جميع الأطراف السياسية المتصارعة، مقابل تخلي السودان عن مواقفه التاريخية الداعمة للقضية الفلسطينية، ومن ثم الانضمام لمعسكر التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهذا ما ينسجم مع وضع السودان عن التخلي عن رعاية الإرهاب، وعلماً أن السودان منذ عام 1996م طرد الجماعات الإسلامية المتطرفة من البلاد. إجمالاً إن الغرض من سياسة التعاون الأمريكي السوداني أنها تساعد في تخفيف الضغط عن الحكومة، وانهاء عزلتها الجزئية، كما تساعد في الوصول لعلاقات طبيعية مع ما يسمى بدول الاعتدال العربي خاصة السعودية وبعض دول الجوار الأفريقي، ولا غرابة إذاً في بروز التيار التطبيعي وسط المؤتمر الوطني، وعدد من الشخصيات المشاركة في الحوار الوطني أبرزهم رئيس حزب المجلس السياسي للسودانيين المستقلين عبد الرازق محمد إمام، ووالي النيل الأبيض عبد الحميد موسى كاشا، والوالي السابق للقضارف كرم الله عباس، للاستفادة من الحوافز الاقتصادية التي أقرتها الإستراتيجية الأمريكية أولاً برفع الحظر عن الشركات الأمريكية في الاستثمار بالسودان، وتقديم قروض وإعانات مالية مؤثرة، ومساعدة السودان في تطبيع علاقاته مع المؤسسات المالية والدولية، فضلاً أن التطبيع مع إسرائيل سيجلب للبلاد منافع اقتصادية. في واقع الأمر أن تلك الدعاوى التطبيعية مع إسرائيل، أضحت الطريق السهل لكسب الود الأمريكي، وإعادة العلاقات معه، ما يجعل مستقبل البلاد رهيناً لعلاقة تكتيكية عابرة فقط لصالح أجندة سياسية لمجرد البقاء في السلطة، بعيداً عن الأمن القومي ومصالح البلاد الإستراتيجية العليا، مبدئياً فلسطين هي درس البديهيات، هي قضية العرب المركزية الأولى، هي جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، هي تعبر عن أعلى درجات الوطنية والشعور القومي بعيداً عن طريق إسقاط التاريخ العربي الإسلامي الذي تم عبر التآمر الدولي وتواطؤ إقليمي والذي يعد كارثة وطنية وسياسية واجتماعية وأخلاقية وتاريخية، بإلغاء الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، أي منطق مخادع لذلك، والعدو الأمريكي والصهيوني معمق لجراح أمتنا، مهين لكرامتها، عابث بروح أبنائها، مدمر لمدنها وقراها، ناهب لثرواتها، وكاشف عن عميق أزمتها ودورانها العبثي حول نفسها، وإصرارها على وضع رأسها في الرمال تطبيعاً معه بمنحه المشروعية الدينية التاريخية والقانونية المزعومة وإسقاط حق العودة، وفي تهجير فلسطيني 1948م وإضفاء الصدقية على الرواية الصهيونية في الأرض والتاريخ معاً، بما يمس جوهر القضية الفلسطينية وقضايا الصراع العربي الإسرائيلي برمتها مكافأة تطبيعاً معه.