عزيزي القارئ، أكتب إليك من داخل قاعة المؤتمرات بالمركز الهندي للأبحاث الزراعية (ايكار)، حيث لبيت الدعوة من أساتذة المبيدات بالمركز بتقديم ورقة علمية عن المبيدات بالسودان بالمؤتمر الذي تنظمه مجموعة من الاتحادات والشبكات على رأسها الاتحاد العالمي للكيمياء البحتة والتطبيقية (ايوباك)، بشراكة مع المركز وجمعية المنتجات الطبيعية وجمعية النباتات الطبية والعطرية الهندية وجمعية الترويج للزراعة المستدامة، تحت عنوان (الكيماويات الزراعية الواقية للمحاصيل والصحة والبيئة الطبيعية)، كيمياء جديدة من أجل الطب النباتي وكيماويات وقاية المحاصيل (6-9) أبريل بنيودلهي.. هذا المركز يضم كل ما هو متعلق بالزراعة والنبات والحيوان، يعتبر مدينة قائمة بذاتها داخل العاصمة، ويضم الآلاف من العلماء في كل التخصصات الكبيرة والدقيقة، وبه من المعامل الحديثة التي لا تتوفر إلا في الدول المتقدمة وتلك التي تدرك ما هية وأهمية العلم والعلماء بالنسبة للارتقاء بدولهم، كما توجد به معاهد تضم الآلاف من طلاب الدراسات العليا من كل دول العالم تقريباً، توفر لهم المنح والسكن للمتزوج وغير المتزوج. علمت أن للسودان اتفاقية تفاهم مع هذا المركز، لكن حتى تاريخه لم نرَ ثمرة هذه الاتفاقية!! الزراعة بالهند متقدمة بدرجة تفوق الخيال، وفي كثير من المحاصيل تكون إنتاجيتهم في المراتب من الأولى إلى الثالثة، رغم عن كثافة عدد السكان، نجد أن الهند مكتفية ذاتياً من كل الحبوب، خاصة الأرز والقمح، السبب الرئيسي وراء ذلك هو العلم والتدريب والإرشاد، طبعاً أنا ما بحب أتكلم في السياسة!! العلم ينتج من عمل العلماء، خاصة المبدعين منهم، الهدف منه هو خدمة المجتمع، وإن أمكن الإنسانية جمعاء، لكن الباحث ليس من واجباته نقل المعلومة لمن يستفيد منها، هنالك جهات متخصصة في نقل المعرفة والمعرفة التطبيقية (التقانة/ التكنولوجيا) للجهات المستفيدة، بالنسبة لنا كزراعيين، وبحوثنا بدأت منذ العقد الأول من القرن الماضي، نرى أننا قمنا بالكثير طوال قرن من الزمان، أين نتائج تلك المجهودات المضنية؟.. لماذا لم ترَ النور حتى يستفيد منها المزارع والإداري ومتخذ القرار والمواطن بصفة خاصة؟ في رأيي كأستاذ وكباحث أعمل في هذا المجال منذ العام 1974م، أرى أن من أهم نقاط الضعف، بل أضعف الحلقات في منظومتنا الزراعية، هي حلقة الإرشاد الزراعي، كما أرى مقارنة بمزارعي الشمالية ومزارعي مصر والهند، أن الحلقة الثانية الضعيفة هي ما نطلق عليه صفة مزارع سوداني!!.. هل رجعتم إلى التسمية التي أطلقها عليه الإنجليز الذين أسسوا لمشروع الجزيرة أسماه الخواجة Gezira tenantولم يعطه صفة مزارع الجزيرة، Gezira منfarmerأي وصفه بأنه سكان الجزيرة بدلاً من الفلاح أو المزارع، حيث إن أغلبهم كان من الرعاة وتحولوا إلى زراع دون إرث زراعي كما هو الحال في الشمالية، أو تدريب يؤهله لأن يصبح مزارعاً بدلاً من راع لا يعرف أساسيات الزراعة، أما المشاكل الأخرى فنختصرها في تحضير الأرض، والكثافة النباتية، والأصناف المحسنة (إكثار البذور). ما يهمنا الآن هو العلم ومن ينقله من أضابير البحث العلمي إلى أرض الواقع، تحدثنا عن هذا الأمر كثيراً، وقمنا بكتابة رأينا بكل صراحة ووضوح، أعلناه بالمؤتمرات وورش العمل واللجان الفنية والمتخصصة، كما أوصلناه إلى الوزراء ووكلاء الوزارات، لم نتلقَ رداً أو أية إشارة بأن الرسالة قد وصلت، آخر من قمت بمناقشة الأمر معه كان وزير الزراعة الحالي شفاهة بالإسكندرية في مؤتمر تغير المناخ، قبل أن يصبح وزيراً، حيث كان مديراً عاماً لهيئة البحوث الزراعية، ثم وكيل الوزارة الحالي بعد أن تسلم الوزارة بعدة أيام، الفكرة التي سأطرحها وجدت منهما القبول، لكنها لم ترَ النور بعد. الفكرة تنبع من الفقرة الأولى بهذا المقال، وتنادي بضم الإرشاد الزراعي لهيئة البحوث الزراعية، وربط كل مرشد بباحث بعينه يلقف منه المعلومات ويقوم المرشد بنقلها بطريقة مبسطة ودقيقة للمزارع بالحقل، هنالك الكثير من التقنيات والحزم التقنية تمت إجازتها بواسطة اللجان الفنية ولم يسمع بها صاحب المصلحة الحقيقية، نعني بعملية الضم أن تكون رئاسة الإرشاد الزراعي برئاسة هيئة البحوث الزراعية بمدني، وأن يضم مكتب الإرشاد بكل الولايات بالمحطات البحثية الموجودة هناك، كما نفضل أن يكون لكل باحث مرشد زراعي يتابع أبحاثه ويتم الاتفاق بينهما على كيفية وطريقة نقل المعلومة، هذا يجعل من المرشد مرشداً متخصصاً في مجال محدد subject matter specialist بالتأكيد لا يستطيع مرشد واحد أن يكون ملماً بكل التخصصات الزراعية، فيجب أن يكون هنالك مرشد متخصص في المحاصيل الحقلية، وغيره في المحاصيل البستانية، وثالث في وقاية المحاصيل، ورابع في الري، وخامس في الهندسة الزراعية...الخ، هذا الأمر سيسهل عملية التفاهم بين الباحث والمرشد، وينقل احتياجات المزارع ومشاكله للباحث بحيث يحاول إيجاد الحلول لها. ينطبق ذات الشيء بالنسبة لربط المرشدين بهيئة بحوث الثروة الحيوانية، يجب أن يكون هنالك مرشد مرتبط بكل باحث، كما يجب أن يكون المرشد متخصصاً في المجال المعني، أي تربية حيوانات اللحوم، تربية حيوانات اللبن، تربية الدواجن، الصحة العامة للحيوان، وغيره في المنتجات الحيوانية من ألبان ومشتقاتها واللحوم ومشتقاتها.. الخ. كما نرجو من كليات العلوم الزراعية أن تبدأ في تغيير مناهجها بحيث تقوم بتخريج مرشد زراعي متخصص في مجال معين، بدلاً عن تخريج النوعية الحالية التي نطلق عليها مساعد مفتش أو مفتش.. الأمر لا يحتاج إلى الكثير من الجهد، بل يمكن دمج بعض المواد أو حذف البعض وإدخال عدد من مطلوبات تخصص الإرشاد والتربية الريفية. الزراعة يا سادة علم وتدريب وإرشاد، من أراد أن يأكل مما يزرع فعليه بالعلم، والعلم لديه متطلبات أهمها الإرادة والإبداع والمال والعلاقات الحسنة مع الدول التي تمتلك التقانات، اللهم نسألك اللطف.. آمين.